هارون الأميركي الشاهد والشهيد
بدا هارون في الصّورة الأولى التي تناقلتها المواقع طفلاً كبيراً التقط لنفسه سيلفي بتقنية الخمس ثوان. كفتىً له ميولٌ للعزلة، لا يحبّ الحشود والصور الجماعية أو الوضعيات المعروفة للصور، أو كأحد محبّي العلوم الغارقين في عوالمهم، بما أنه مهندس معلوماتية في الطيران. تظهر العزلة جلية في فعله، وفي شجاعته، فلو حدّث صديقاً أو قريباً بخطّته، لأقنعه بالعدول عنها. وفي عفويته الصّادقة التي تشبه نقاء طفلٍ يرى الحياة كما يجب: أبيض وأسود. قبل أن تكتسح المنطقة الرمادية الأفق. وهو ليس بالغرّ، فعملُه في البرمجيات علّمه أن يختار الطريقة التي تصل بها رسالته إلى العالم، من دون أن تقصّ يد الرقابة عنقها، فاختار البثّ المباشر، ومنصّة تويتش الأقلّ حساباً وعقاباً مقارنة مع فيسبوك وأنستغرام.
في صوت هارون/ آرون بوشنل شيءٌ يترك أثراً في النفس لا يزول. هذا شابٌّ صغير، ربما لم يرَ من الحياة الكثير من جانبها السيئ، لكنه شعر بمن يعاني أهوالها. ليس كما نشعرُ نحن ونغصّ وتتقطع قلوبنا، لكنّنا نعضّ على الجرح، ثم نواصل الحياة. بل شعور من يُدرك أنه وقتُ الفعل لا وقتُ الأسى. ولكن أبواب الفعل مغلقة، كما عندنا لأسبابٍ أخرى، في دولةٍ تمجّد الإرهاب، فتربّي إرهاب إسرائيل كما تربّي نمراً، تحاول إقناع العالم بأنّه قط.
لستُ أشجّع هذا العمل القوي القاسي على النفس، وتعزّ عليّ حياة هذا الشاب كما حياة أيّ إنسان. لكن إذا نظرتُ إليه كما نظر هو إلى الأمر، فهمتُ أنها فكرة جنديٍّ ذاهبٍ إلى الحرب حيث الموت أقوى من الحياة. لذا أصفّق له، لأنه خاض الحرب وحدَه، بما أن بلادَه تقف على الجانب الآخر، جانب الإجرام والإبادة الجماعية لشعبٍ كاملٍ لا ذنب له سوى أنه موجود على قيد الحياة في أرضٍ جاء إليها مفترون لسرقتها.
إذا كان الفعل صادماً لنا نحن في محيط الحرب عاطفياً وجغرافياً، فكيف بالغرب؟ وإذا كنّا نحن بملاييننا من الأنفس، لم يقم فرد منا بفعل قريب من هذا الاحتجاج، فكيف يقوم به شاب بعيد كُوّن ودرّب من أجل أن يقصف الآخرين في بلادهم. ليس دفاعاً عن بلاده، بل في حروبها المجّانية في بلاد الآخرين؟
أحرج هارون بملامحه الطفولية المحبّبة العالم أجمع بشجاعته. بفعل اعتبره نفسُه متطرّفاً في احتجاجه، لكنه كان يعرف أن فعلاً بهذه الجذرية فقط ما سيترُك أثراً لدى فئات كثيرة من السياسيين الذين سيستبقون قيام آخرين بأفعال احتجاجية قصوى أخرى. بل ونشوء شعور عام بمعاداة الصهيونية وإسرائيل نفسها.
ما يجعل فعل هارون أقوى أنه خطّط له، ولم يقم بذلك في فورة غضب أو يأس. لقد كتب "إيميلات" إلى صحافيين لإعلامهم بخطّته التي نفّذها في بثٍّ مباشر، حتى يواجه أي محاولة للتعتيم على تضحيته. ويصل صوته إلى العالم بأسره. لعله بوعزيزي آخر، يقدّم نفسه وقوداً لتغيير مهما كان هو أفضل من الوضع القائم. وازدياد عدد التظاهرات في العالم احتجاجا على الإجرام الإسرائيلي دليلٌ على ذلك.
مع العلم أنها ليست المرة الأولى التي يحرق فيها محتجٌّ نفسه، أمام مبنى ديبلوماسي إسرائيلي في أمبركا، ففي ديسمبر/ كانون الأول الماضي، أحرقت متظاهرة نفسها أمام القنصلية الإسرائيلية في أتلانتا، لم تحدّد وسائل الإعلام هويتها. بل هناك بيان وحيد ينقل تصريح مسؤول أمنيٍّ والقنصل الإسرائيلي. ولعل هارون استفاد من تجربتها، وحرص أن يتجاوز الرقابة الديكتاتورية على تضحيةٍ هي الكبرى، التضحية بالنفس من أجل قضية.
لا فرق بين فعل هارون وفعل أي منفذ عملية استشهادية في القدس، حيث يحوّل الإنسان نفسه إلى سلاح لمّا تنفد منه الخيارات. حيث يتواطأ العالم بأسره على محو شعبٍ كامل، فعلاً أو دعماً، أو صمتاً مثل صمت الخذلان العربي المدوي. الحقيقة أن هارون قدّم الجواب الذي يليق بسؤاله: ماذا كان أحدُنا ليفعل لو عاش في زمن العبودية؟ وهو فعل شيء، أي شيء بالإمكان للانتصار للمظلومين. وماذا يفعل هارون في غياب موسى؟