نكرّم العربية في عيدها ونفرِّط بها بقية السنة
يحلّ يوم اللغة العربية العالمي، فتنهال التبريكات. ولا تبقَى فضيلة إلا وتُلصق بها: الدقة، الجمال، الخلود، الثراء، المنطق، الدين... وقد يستمر "اليوم العالمي" أياماً. وبعد ذلك، تعود العربية إلى حظيرة اليوميات التعيسة، تتلقى صفعات الازدراء. في اليوميات أقول: وإليك الأمثلة الأكثر شيوعاً:
- الذي يتكلم العربية وكأنها ليست لغته الأم، كأنه لا يعرفها تماماً، يتوقف برهة، ويشرد أحياناً، لينطق بالكلمة الأجنبية التي "وجدها...!"، فيرتاح كالمنتصر حضارياً على من يُفترض أنه يستمع إليه. وهذا المتفوِّه بـ"الأجنبي" ممكن أن تجده في أي مكان، في الإعلام، في البرامج الحوارية أو المقابلات، مع السياسيين، الوزراء والنواب. لدى المواطن البسيط وغير البسيط، في الأماكن العامة المختلفة، عند الباعة، في المطاعم والمقاهي والمراقص والاحتفالات... كلٌّ يحاول إدخال كلمات فرنسية، وغالباً إنكليزية على حديثه بالعربية، فيرفع درجة بالانبهار به، ويزيد رأسماله الرمزي. إنها عقدة النقص لدى أصحاب اللسان العربي.
- ذلك أنه أصبح من العادات غير المعلنة أن تتباهى بعدم معرفتك العربية جيداً. هذا وسامٌ تعلّقه على صدرك. وتشحذ عليه مكانة أو وظيفة. هو دليل على أنك خريج مدرسة أو جامعة معتبرة، أهملت العربية و"ركّزت" على الأجنبية. ولا يؤاخذ أصحاب هذه الخصْلة كثيراً، إذ دأبت مدارسهم المكْلفة، منذ الصِّغر، على معاقبة من يتكلم العربية في باحاتها، وبين أروقتها. عقدة النقص إياها.
بعضهم يشيّئ اللغة، يعاملها كشيء، كجَماد، فيأخذها على ما يعتريها من هزال، ويتكاسل في رفدها بما تحتاجه من ماء وظلال
- ومن طرائف هذه الخصْلة التي صارت أشبه بالتقاليد: مناقشة أطروحة دكتورة، في الجامعة اللبنانية، "الوطنية"، بلغتها الرسمية، أي العربية. مداخلة أحد الدكاترة المناقشين تتخلّلها مفردات فرنسية، تليها ترجمتها بالعربية على يد الدكتور نفسه. وهذا كرمٌ منه، هدية خاصة "لمن لم يفهمها باللغة الأجنبية". ولكن في الغالبية العظمى من الأحيان، تكون المفردة الفرنسية غير مطابقة للعربية! ترجمة فالْصو! ماذا أراد هذا الدكتور أن يقول لهذا الجمع المحتشد المدعو إلى حضور مناقشة الأطروحة؟ من أنه أعلى كعبة مما قد يعتقده بعضكم. أنا أعرف الفرنسية أيضاً، وباللكنة الباريسية المحبّبة. عقدة نقص أيضاً وأيضاً.
ثمّة درجات أخرى من عقدة النقص هذه. أو بالأحرى تجليات لها. منها مثلاً أنك، مهما بحثتَ واستفسرتَ، فلن تجد إلا صنفَين من الكتب المخصّصة للأطفال بالعربية: الأول مترجم، غالباً ترجمة ثقيلة. والثاني مواعظ دينية أو عقيدية. والنادر من بين هذه الكتب، أي الأصيل، المبدع، الحيوي، المشوِّق... فهو نادر، مغمور. اكتشفتُ هذه "الثغرة" وأنا أبحث عن قصص عربية لأحفادي، لأشجّعهم على القراءة بالعربية، فلم أجد غير كتب حسن عبد الله وفاطمة شرف الدين. وهي غير ذائعة.
مثلٌ آخر: الإجماع على أن الروايات الأجنبية المترجمة إلى العربية أكثر جاذبيةً من الروايات العربية. والسبب، حسب النقاد المعنيين بالظاهرة، أن اللغة العربية لا تبدع، لا تحرّك سكوناً، لا تسلّي، بصرف النظر عن القيمة العليا التي يعامَل بها الروائي الأجنبي سلفاً، أو حتى أحياناً من دون أي نقد حقيقي. أو استناداً إلى نقد أجنبي أيضاً، يتبناه "الناقد" العربي. حسناً، إذا كانت اللغة العربية وكتابها ميتين إلى هذه الدرجة ومفرداتهم لا تستجيب لتجارب وعوالم جديدة. هل وجد المترجم في طريقه الكلمات العربية المطابقة؟ من أين سيجدها، هي والنص الأصلي مستوحى من تجارب لغوية غنية؟ فيما لغتنا العربية، المتَرْجم إليها لا تستحق، قاحلة هي، فقيرة؟ وأدبائها ناقصون؟. هي "النرجسية المجروحة" التي يتكلم عنها محللو نفسيات العرب المعاصرين. كانوا أمة عظيمة، وصاروا الآن خلف معظم الأمم.
أصبح من العادات غير المعلنة أن تتباهى بعدم معرفتك العربية جيداً. هذا وسامٌ تعلّقه على صدرك
وبعض الكتاب الكبار الثائرين على مواتها، "يحيونها" بمفرداتٍ قديمة معقدة، وبجمل طويلة مفتعلة متأنقة، وحشد من الطوطمات (جمع طوطم) اللغوية، تصيبكَ قراءتها بالصداع. بقليل من الفائدة والمتعة. فيما بعضهم الآخر يشيّئ اللغة، يعاملها كشيء، كجَماد، فيأخذها على ما يعتريها من هزال، ويتكاسل في رفدها بما تحتاجه من ماء وظلال. وإلى ما هنالك من وقائع لغوية، أبطالها معنيون بها أكثر من غيرهم من المواطنين المنْكبّين على ثقافة مواقع التواصل. أضف إلى ذلك بروز اللغات المحْكية في كل قُطر عربي بعينه. ما يضرّ بوحدة اللغة وبإمكانية أن يتفاهم العرب شفهياً ونحوياً بعد عقد أو عقدين من تطوّر هذه اللهجات الداخلية وتحولها إلى لغة ربما أكثر من محكية، ولكن خطر العامية يشعل شمْعة، وربما أكثر:
هي كتابات الشباب العرب، آراء، تحليلات، روايات وأشعار. أقول "شباب"، وأعني الجيل "الروحي"، إذا جاز التعبير. الذي يجمع في صفوفه غالبيةً من الشباب ذوي الأعمار الفتية، وأقلية من الكتّاب الأكبر. ماذا في جعْبة هؤلاء؟ كتابة تستقي من الحياة المباشرة مفرداتها العامية، لا تعتريها عقدة النحوي، ما دامت المفردة غير موجودة فيه. تدخلها، وتدخل غيرها، وتكرّر. بما يضمن رسوخ المفردة، وشيوع معناها بين القرّاء، أبناء القطر العربي الواحد أو الأقطار المختلفة. ليس هذا وحسب. إنما في الجملة التي يصوغها أولئك الشباب أيضاً. وهي عصبية، ندية، قصيرة، بسيطة تجرّك إلى عالمها من دون متاهات. وهي مؤهلةٌ لجذب القارئ العربي الآخر، تماماً كما انتشرت اللهجة المصرية في عزّ إنتاجها الفني والأدبي، وصارت مفرداتها ولهجتها بمتناول العرب جميعاً. فئة الشباب هذه تأخذ عقدة النقص على عاتقها تتعهد بمقاومتها. تكتب ما تعيشه. تعيش ما تكتبه. تعامل اللغة بوصفها كائناً حيّاً، ذكياً، يومياً، لحظوياً، عفوياً. يحتاج الى سِقاية برشّات خفيفة، لا بالبراميل من المياه.
هذه الفئة الثانية، على "محليتها"، تشكِّل بين أعضائها "جماعة متخيَّلة" واحدة، ركنها الوحيد هو اللغة. تحتاج الوقت لتنمو. لتغرف لغتها من حياتها، تغذّيها بها، تحبها مثل أم وولدها. هي ربما غير واعية تماماً لدورها هذا. ولكن مصيرها أن تعيه. وساعتها سيكون زخمها أقوى، وفضائلها على العربية معترَف بها. وهي الآن لا تحتاج لسوى الوعي بانتمائها إلى هذه الجماعة المتخيَّلة. تشعر بدفئها لمجرد أن تكتب وتقرأ بالعربية.