09 نوفمبر 2024
نكبات تجمع شعوباً وتُباعد ما بينها!
إلى جانب الدول التي تمنع، بوسائل مختلفة وذرائع شتى وعقوبات عدة، مختلف أشكال التضامن، وحتى التعاطف، مع شعوب شقيقة منكوبة ومكافحة، وخلافاً لما كان عليه الحال في سنوات قليلة ماضية، فإن الظرف الراهن الذي تعيشه المنطقة بات يشهد ظاهرة أليمة جديدة، عنوانها وفحواها: العجز عن التضامن، لا لسبب سوى أن شعوباً عربية هنا وهناك غارقةٌ ومستغرقةٌ في كوارثها الداخلية، وعلى نحو يجعل كفاحها منصبّاً على الدفاع عن حقها في الحياة أمام جلاوزة العصر، وبصورةٍ تحرمها موضوعياً وعملياً من فرص التضامن مع غيرها، أو الالتفات إلى ما يجري خارج الحدود. وهي ظاهرة لا نظير لها في منعطفاتٍ سابقة، وحيث كانت ثمّة أواصر وخيوط تجمع أصحاب مأساةٍ هنا مع الواقعين تحت وطأة محنةٍ هناك، وحيث كانت تسود أشكال من التضامن المتبادل والجماعي، ولو من بُعد.
عشية موجة الربيع العربي، وخلال سريانها، كانت هناك شيفرة سهلة القراءة، تجمع المتضامنين ضد الاستبداد والفساد، وحيث كان يجد كل شارع عربي منتفض ما يشحذ عزيمته، وما يزيد من شرعية انتفاضته في احتجاجات شارع عربي آخر، وهي الاحتجاجات المدنية السلمية التي تستحق أن توصف بأنها من أنبل الظواهر العربية التي شهدتها حقبة السنوات العشر الأخيرة.
في الظرف الحالي، تضغط الكوارث التي يعيشها غير بلد عربي، بصورة بالغة الشراسة، على بعض شعوب أمتنا، وعلى نحوٍ لا يسمح بالتواصل السياسي، وربما الوجداني أيضاً، بين الشعوب، فلكل شعب حصته الكبيرة المقدّرة من العذاب والألم. وبهذا نجح الفاعلون حتى
تاريخه في عزل الشعوب عن بعضها، وجعلها، في بعض الحالات، تواجه بعضها بعضاً بالمفاخرة والتلاوم. وتزخر مواقع التواصل بتعليقاتٍ سلبيةٍ يسودها التباعد والتنابذ. كما تزخر بإدارة الظهر وصم الآذان عن معاناة شعبٍ آخر، فيما يتسلل نفرٌ من الجهابذة، ليشكّكوا الناس في ما يعرفونه ويخبرونه خبرة حسّية، وفي تبني الرواية الصهيونية على سبيل المثال، أو نعت الأكراد، وهم شركاؤنا في الأوطان، بأنهم أدواتٌ للصهيونية، أو نعت رابطة العروبة بأقذع النعوت، أو النّيل من كل ما هو إسلامي أو ليبرالي أو علماني، ناهيك عن التهجمات على السوريين والفلسطينيين والخليجيين، والتي تصدر عمن ينتمون لهذه الشعوب أو لغيرها، ضد شعبٍ شقيقٍ آخر.
غير أن الذي يعنينا هنا هو ظاهرة الاستغراق في المحنة الذاتية الوطنية إلى حد الانغلاق، بسبب ظرف موضوعي قائم، وليس نتيجة "انحراف البوصلة"، ففي بلدانٍ، مثل ليييا وفلسطين واليمن وسورية والعراق، فإن الاتجاه العريض للرأي العام هو التركيز، شبه التام، على التحدّي الداخلي وقياس الأمور جميعها من المنظور المحلي الخاص، وعقد مقارناتٍ بين مدى فداحة المحنة هنا أو هناك، ومن منها أوجب بالمعالجة، أو التشكّي من "انحياز" متابعات وسائل الإعلام لتطورات الوضع في بلد ما ،على حساب مواكبة الوضع في بلد آخر.
وواقع الحال أن التباعد ناجمٌ عن عدة عوامل، في مقدمها اختلاف مصادر المحنة هنا وهناك، وكثرة اللاعبين والفاعلين الداخليين، ومن هم على مستوى إقليمي ودولي وتشابك أدوارهم. فعلى أرض فلسطين، يتبدّى التحالف اللئيم بين واشنطن والاحتلال الإسرائيلي، وقد زاد انكشافاً وشراسة وغطرسة، من دون أن تعبأ واشنطن بمصالحها الهائلة في المنطقة العربية، ولا بالسخط المتجدّد لدى الرأي العام العربي، ولا بعزلتها الدولية، ولا بمصلحة الجميع في سلام جدّي، يستند إلى المرجعيات الدولية. على أن هذا الاندفاع الأميركي، المحموم والأعمى، لعبور ما يشبه الحائط الصلد، قد أدّى من دون أن يعي أصحابه أو يقصدون الى إحياء القضية الفلسطينية، وفي القلب منها القدس المحتلة في وعي ملايين العرب ووجدانهم، فيما أخرجت واشنطن "نفسها" من أداء أي دور في العملية السياسية، وإن كان ذلك مرهوناً بمدى صلابة الموقف الفلسطيني، وتمسك أصحابه بالحقوق الثابتة غير القابلة للتصرّف، وصمودهم أمام أي عملية سياسية مغشوشة.
وبينما تبدو الصورة هنا على درجةٍ من الوضوح، فإن الوضع المأساوي في بلدٍ مثل اليمن يبدو مختلفاً، ولا تربطه وشائج بيّنة بالوضع في فلسطين. ففي بلاد بلقيس، تطلق ميلشيات إيران الحوثية على نفسها اسم أنصار الله، تيمّناً باسم حزب الله في لبنان، والأخير ذراع محلية للحرس الثوري الإيراني، كما هو الحال لدى الحوثيين، ويأخذ الصراع أبعاداً مختلفة، ففي مواجهة الانقلابيين تقف الشرعية والمقاومة الوطنية، مسنودة بتحالف عربي. وتقوم حربٌ بالوكالة بين إيران التوسعية والمملكة العربية السعودية. وتنشط بقايا تنظيم القاعدة لإفساد أي جهد لتخليص البلاد من الانقلابيين والتدخلات الإيرانية. فيما تقف واشنطن، المعتدية بصلافة على حقوق شعب فلسطين، ضد الانقلابيين وضد التمدّد الإيراني، مع بعض الضغوط من اجل تمرير حل سياسي، قد لا يضع حداً لجذور المشكلة، فيما تحتدم المأساة الإنسانية لليمنيين، الذين يجدون أنفسهم في مرمى تبادل القصف، وتنتشر الأوبئة في صفوفهم، ويلوح شبح المجاعة في أوساطهم. وليس مستغرباً، في ظل هذا الوضع، أن يكون التواصل بين شعبي اليمن وفلسطين شبه معدوم.
بينما يبدو الوضع في ليبيا أقل تعقيداً، لكنه ليس أقل مأساوية، فبينما تتضاءل أدوار لاعبين دوليين، باستثناء أميركيين واوروبيين، ضد ما بقي من وجود تنظيم داعش هناك، فإن نفوذهم على الأرض أقل ملموسية. بينما يلوح دعم روسي للجنرال خليفة حفتر، الطامح للسلطة والقافز عن الاتفاقيات المبرمة. فيما الحياة الطبيعية شبه مشلولة، وحبل الأمن مضطربٌ، والاقتصاد
على حافة الانهيار، والتقاسم المناطقي بين القبائل والفصائل قائم على قدم وساق. وليس في وسع الليبيين في هذه الظروف التفاعل مع المحنة اليمنية، ولا الفلسطينية.
وفي سورية، تواصل كل من إيران وروسيا تدخلاً عسكرياً مباشراً وواسع النطاق، ويتخذ شكل أنشطة عسكرية، ذات طبيعة ميلشاوية غرائزية وتدميرية، من أجل كفالة مصالحهما التوسعية، وضمان حرمان السوريين من نيل حقهم في الحرية والأمن الكريم. وينشط الطرفان في سد الطرق أمام الحل السياسي الذي تمثله مرجعية جنيف، ولا يوليان أي اعتبار للضحايا المدنيين والمرافق المدنية، ولا لتهديم المدن السورية. ويسير السوريون على طريق النكبة التي أصابت أشقاءهم الفلسطينيين، وذلك في الحجم الهائل لعمليات التهجير والاقتلاع، والتغيير الديمغرافي القسري، وهدم البيوت، والاعتقالات الجماعية .. فكيف للسوريين، في مثل هذه الظرف الرهيب، أن يملكوا فرصة التواصل أو التفاعل مع انتفاضة فلسطين، خصوصاً أن أبرز الفاعلين في نكبتهم المتوالية فصولاً، وهو الطرف الروسي، يرفع الصوت بوقوفه ضد قرار ترامب بخصوص القدس عاصمة لدولة الاحتلال، ومع تسمية القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين؟ وهو يجعل أيضاً الفلسطينيين الذين يواجهون بصدورهم جيش الاحتلال في منأىً عن التفاعل مع المحنة السورية.
وبهذا، وإلى جانب مجموع المحن "المتفرّقة" الخاصة بكل بلد وكل شعب، ثمّة مخاطر سياسية عامة، تتمثل في التقاسم الضمني والفعلي للأدوار بين كل من واشنطن وتل أبيب وموسكو وطهران، لاستنزاف الكيان العربي المشرقي والسيطرة عليه، وتوزيع مناطق النفوذ فيه، ولو بقدر ملحوظ من التنافس الشرس في بعض الأحيان، وبتفادي الاشتباك بينها في أحيانٍ أكثر. هذا مع غياب حركاتٍ عربية جامعة، وتفكك النظام العربي، ما يجعل كل شعب في البلدان المذكورة يخوض كفاحه الخاص منفرداً، وهو ما يستلزم، في أضعف الحالات، قدراً من الاحترام المتبادل الإنساني والأخلاقي بين الشعوب، ورفع الوعي بأهمية الوقوف الحازم مع المدنيين في كل مكان، وتجريم التعدّيات عليهم، والاعتصام بمخرجات الشرعية الدولية إزاء قضايا جميع البلدان، وتفهّم التعقيد الخاص الذي يكتنف ظروف الدول والمجتمعات، وما يترتب عليه من أولوياتٍ متباينة، وإلى أن يُقدّر لشعوبنا بدء الخروج من هذا النفق المظلم الدامي.
عشية موجة الربيع العربي، وخلال سريانها، كانت هناك شيفرة سهلة القراءة، تجمع المتضامنين ضد الاستبداد والفساد، وحيث كان يجد كل شارع عربي منتفض ما يشحذ عزيمته، وما يزيد من شرعية انتفاضته في احتجاجات شارع عربي آخر، وهي الاحتجاجات المدنية السلمية التي تستحق أن توصف بأنها من أنبل الظواهر العربية التي شهدتها حقبة السنوات العشر الأخيرة.
في الظرف الحالي، تضغط الكوارث التي يعيشها غير بلد عربي، بصورة بالغة الشراسة، على بعض شعوب أمتنا، وعلى نحوٍ لا يسمح بالتواصل السياسي، وربما الوجداني أيضاً، بين الشعوب، فلكل شعب حصته الكبيرة المقدّرة من العذاب والألم. وبهذا نجح الفاعلون حتى
غير أن الذي يعنينا هنا هو ظاهرة الاستغراق في المحنة الذاتية الوطنية إلى حد الانغلاق، بسبب ظرف موضوعي قائم، وليس نتيجة "انحراف البوصلة"، ففي بلدانٍ، مثل ليييا وفلسطين واليمن وسورية والعراق، فإن الاتجاه العريض للرأي العام هو التركيز، شبه التام، على التحدّي الداخلي وقياس الأمور جميعها من المنظور المحلي الخاص، وعقد مقارناتٍ بين مدى فداحة المحنة هنا أو هناك، ومن منها أوجب بالمعالجة، أو التشكّي من "انحياز" متابعات وسائل الإعلام لتطورات الوضع في بلد ما ،على حساب مواكبة الوضع في بلد آخر.
وواقع الحال أن التباعد ناجمٌ عن عدة عوامل، في مقدمها اختلاف مصادر المحنة هنا وهناك، وكثرة اللاعبين والفاعلين الداخليين، ومن هم على مستوى إقليمي ودولي وتشابك أدوارهم. فعلى أرض فلسطين، يتبدّى التحالف اللئيم بين واشنطن والاحتلال الإسرائيلي، وقد زاد انكشافاً وشراسة وغطرسة، من دون أن تعبأ واشنطن بمصالحها الهائلة في المنطقة العربية، ولا بالسخط المتجدّد لدى الرأي العام العربي، ولا بعزلتها الدولية، ولا بمصلحة الجميع في سلام جدّي، يستند إلى المرجعيات الدولية. على أن هذا الاندفاع الأميركي، المحموم والأعمى، لعبور ما يشبه الحائط الصلد، قد أدّى من دون أن يعي أصحابه أو يقصدون الى إحياء القضية الفلسطينية، وفي القلب منها القدس المحتلة في وعي ملايين العرب ووجدانهم، فيما أخرجت واشنطن "نفسها" من أداء أي دور في العملية السياسية، وإن كان ذلك مرهوناً بمدى صلابة الموقف الفلسطيني، وتمسك أصحابه بالحقوق الثابتة غير القابلة للتصرّف، وصمودهم أمام أي عملية سياسية مغشوشة.
وبينما تبدو الصورة هنا على درجةٍ من الوضوح، فإن الوضع المأساوي في بلدٍ مثل اليمن يبدو مختلفاً، ولا تربطه وشائج بيّنة بالوضع في فلسطين. ففي بلاد بلقيس، تطلق ميلشيات إيران الحوثية على نفسها اسم أنصار الله، تيمّناً باسم حزب الله في لبنان، والأخير ذراع محلية للحرس الثوري الإيراني، كما هو الحال لدى الحوثيين، ويأخذ الصراع أبعاداً مختلفة، ففي مواجهة الانقلابيين تقف الشرعية والمقاومة الوطنية، مسنودة بتحالف عربي. وتقوم حربٌ بالوكالة بين إيران التوسعية والمملكة العربية السعودية. وتنشط بقايا تنظيم القاعدة لإفساد أي جهد لتخليص البلاد من الانقلابيين والتدخلات الإيرانية. فيما تقف واشنطن، المعتدية بصلافة على حقوق شعب فلسطين، ضد الانقلابيين وضد التمدّد الإيراني، مع بعض الضغوط من اجل تمرير حل سياسي، قد لا يضع حداً لجذور المشكلة، فيما تحتدم المأساة الإنسانية لليمنيين، الذين يجدون أنفسهم في مرمى تبادل القصف، وتنتشر الأوبئة في صفوفهم، ويلوح شبح المجاعة في أوساطهم. وليس مستغرباً، في ظل هذا الوضع، أن يكون التواصل بين شعبي اليمن وفلسطين شبه معدوم.
بينما يبدو الوضع في ليبيا أقل تعقيداً، لكنه ليس أقل مأساوية، فبينما تتضاءل أدوار لاعبين دوليين، باستثناء أميركيين واوروبيين، ضد ما بقي من وجود تنظيم داعش هناك، فإن نفوذهم على الأرض أقل ملموسية. بينما يلوح دعم روسي للجنرال خليفة حفتر، الطامح للسلطة والقافز عن الاتفاقيات المبرمة. فيما الحياة الطبيعية شبه مشلولة، وحبل الأمن مضطربٌ، والاقتصاد
وفي سورية، تواصل كل من إيران وروسيا تدخلاً عسكرياً مباشراً وواسع النطاق، ويتخذ شكل أنشطة عسكرية، ذات طبيعة ميلشاوية غرائزية وتدميرية، من أجل كفالة مصالحهما التوسعية، وضمان حرمان السوريين من نيل حقهم في الحرية والأمن الكريم. وينشط الطرفان في سد الطرق أمام الحل السياسي الذي تمثله مرجعية جنيف، ولا يوليان أي اعتبار للضحايا المدنيين والمرافق المدنية، ولا لتهديم المدن السورية. ويسير السوريون على طريق النكبة التي أصابت أشقاءهم الفلسطينيين، وذلك في الحجم الهائل لعمليات التهجير والاقتلاع، والتغيير الديمغرافي القسري، وهدم البيوت، والاعتقالات الجماعية .. فكيف للسوريين، في مثل هذه الظرف الرهيب، أن يملكوا فرصة التواصل أو التفاعل مع انتفاضة فلسطين، خصوصاً أن أبرز الفاعلين في نكبتهم المتوالية فصولاً، وهو الطرف الروسي، يرفع الصوت بوقوفه ضد قرار ترامب بخصوص القدس عاصمة لدولة الاحتلال، ومع تسمية القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين؟ وهو يجعل أيضاً الفلسطينيين الذين يواجهون بصدورهم جيش الاحتلال في منأىً عن التفاعل مع المحنة السورية.
وبهذا، وإلى جانب مجموع المحن "المتفرّقة" الخاصة بكل بلد وكل شعب، ثمّة مخاطر سياسية عامة، تتمثل في التقاسم الضمني والفعلي للأدوار بين كل من واشنطن وتل أبيب وموسكو وطهران، لاستنزاف الكيان العربي المشرقي والسيطرة عليه، وتوزيع مناطق النفوذ فيه، ولو بقدر ملحوظ من التنافس الشرس في بعض الأحيان، وبتفادي الاشتباك بينها في أحيانٍ أكثر. هذا مع غياب حركاتٍ عربية جامعة، وتفكك النظام العربي، ما يجعل كل شعب في البلدان المذكورة يخوض كفاحه الخاص منفرداً، وهو ما يستلزم، في أضعف الحالات، قدراً من الاحترام المتبادل الإنساني والأخلاقي بين الشعوب، ورفع الوعي بأهمية الوقوف الحازم مع المدنيين في كل مكان، وتجريم التعدّيات عليهم، والاعتصام بمخرجات الشرعية الدولية إزاء قضايا جميع البلدان، وتفهّم التعقيد الخاص الذي يكتنف ظروف الدول والمجتمعات، وما يترتب عليه من أولوياتٍ متباينة، وإلى أن يُقدّر لشعوبنا بدء الخروج من هذا النفق المظلم الدامي.