نكاتٌ للمسلحين

23 يونيو 2023
+ الخط -

يسهرُ الابن مع أبيه، في مهمّة شاقّة، هي اختراعُ نكتٍ جديدة كل يوم. بأمرٍ من المُسلّحين، الذين يضربون الأب كلّما يذهب إلى عمله خاويَ النّكات. لكن، كيف تصنعُ نكتةً وأنت في غاية البؤس؟ لإدراك الطفل حجم ورطة الأب، فكّر في طريقةٍ لإعفائه من هذا الألم، وأوكل بعض مرتزقة الحيّ بحمايته، لكن الأب حالما علم بذلك اختفى. لم يفرّ من المسلّحين ونكاتهم الإجبارية، بل من أسرته التي تُشفق عليه من الضّرب ونفادِ النكات، فانقلبت النُّكتة ضده، لأنه لن يستعيد هيبته وسط البيت برواية النّكت لابنه وزوجته. ضرب المسلحين له مؤقتٌ إلى أن تنتهي الوضعية التي جاءت بهم، أمّا المهانة التي شعر بها في بيته فمؤبّدة. الضّرب ولا قلّة القيمة، النّكات ولا الأسى.
لاحقاً، بعد أن شبّ وشاب، اكتشف الابن أنّه قادرٌ على القتل بدعابة، بعد حادثٍ "مؤسف". على هذا المنوال الساخر، يواصل الشّاعر الفلسطيني مازن معروف مجموعته القصصية "نكات للمسلحين" (رياض الريّس للكتب والنشر، بيروت، 2015). مانحاً للنُّكتة بعداً حاسماً في حياة أبطاله الذين بلا اسم، ولا مكان. يمكن أن يكون مسرحَ القصص أيّ بلد عربي قلقٌ أمنياً، ويمكن أن يكون الأبطال أيا من الشّخصيات الضائعة في بلاد تَصرِفُ البشر كعملات رخيصة. سنتيمات أو قروش، يمكن الاستغناء عنها فهي بلا قيمة تقريباً، إلّا إذا اجتمع قدر هائل منها. 
لكن الهاربين من جحيمٍ كهذه، لا تتوقّف مآسيهم بعد مغادرة بلاد النُّكت البائخة، بل تطاردهم المفارقات غير المُضحكة. إذ يمكن أن تكون هذه المآسي دعاباتٍ يسخر عبرها المسلّحون من كل قرشٍ أو فلسٍ ركب الماء، معتقداً أنه ودّع نهائياً اختراع النّكات، لحفظ كرامته من بوطِ أو آخر. البوط خلفهم، حتى وهم بلا أرض تسندهم، فيخذلهم الماء كآخر الدّعابات الثقيلة التي تمثلها حيواتهم.
الغرقى في الشّواطئ المتوسّطية لا ينتهون من الغرق، لم يعودوا بالعشرات في غرب المتوسّط، خصوصا على السّواحل المغربية. وقتا طويلا، كنّا نسمع عن غرق قوارب تضمُّ ما لا يقل عن عشرين شخصاً، وكيف تزور المفارقات القاتلة بيوت الأهل الذين كانوا ينتظرون عودة مظفّرة بالمال، من الضفة الأخرى. والآن يفقدون حامل المال الموعود، كانوا يعدّون الابن من المسلمات. تبلغ الآن الخسائر البشرية المئات في شرق المتوسط، حيث لا يهرُب الناس من الفقر فقط، بل من كلّ الدمار الذي خلّفه المسلّحون، في قتالهم من أجل ما يكاد يصبح عديم القيمة بعد الآلاف الأولى من القتلى. فما هو أهمّ من الحياة للذين فقدوها؟
لا يقف المسلّحون فقط خلف النّهاية المأساوية للهاربين من البؤس، بل حتى حرّاس الدّيمقراطيات المزعومة، التي لا مسلّحون معلنون فيها، فتقارير كثيرة تخبرنا عن قلب حرسِ البحر المسلّحين، بالقسوة، في اليونان، بعض قوارب الموت تلك. سعياً إلى دُعابات قاتلة، وسط الهاربين من الدّعس بأقدام كل ما هو شنيع في الحياة. لعل السّفن والقوارب من أكثر وسائل النقل العابرة للحدود قتلاً للناس. كثيرون لديهم فوبيا الطيران، لكن كم طائرة سقطت من السماء منذ حلقت أول طائرة في السماء؟ وكم عدد الغارقين منذ الأزل في البحار والأنهار؟ 
في الأيام الأخيرة للحجر الصّحي، أكبر دعابة معاصرة، كنتُ أتحدّث مع أمي على "واتساب"، عن إعادة فتح الحدود مع إسبانيا، وعودة الرّحلات البحرية، من طنجة المغربية إلى ميناء الجزيرة الخضراء الإسباني. قفزت كلمة "أغارابو" على الهاتف. وكان قد مرّ زمن بعيد منذ سمعتُ الكلمة آخر مرة. لكن مع دهشة الحنين إليها، لم تكن تلك الكلمة اللّذيذة التي كنّا نطويها، ونضعها في بانيو الدشّ، بعد ملئه بالماء، حالمين أنّها تحملنا إلى بحار، حتى نقع على مغارة علي بابا، حيث الكنز وفيرٌ بقدر أحلامنا. لم تكن الكلمة الوحيدة التي شغلتني لحظتها، كنتُ منتعشةً بوقع كلمات أخرى؛ الكلمات التي حملت الخبر مكتوباً لأوّل مرة إلى أمّي.
قبلها كنتُ أرسل الكلمات مسموعة صوتاً، لأنني أنسى دائماً أنّها جلست على مقاعد الدراسة، ومحَت الأمّية بكلماتٍ تكتسبها كل يوم، إلى أن صارت تنساب مثل بحر يحمل "أغاربو" (السفينة بالأمازيغية) بعيداً. بحرٌ لا نكتَ فيه ولا غرقى ولا مسلّحون.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج