نقد هاشمي مرير للوصي عبد الإله
في كتاب السيرة الذاتية "صَحِب الناسُ قبلنا ذا الزمان"، لجأ المؤلف فواز شرف، وهو وزير أردني وسفير سابق لبلاده، إلى سرد سيرة عائلته الهاشمية، وبالذات سيرة والده شرف بن راجح، وصولا إلى سيرته الخاصة. ولأن سيرة هذه العائلة ترتبط بحضورها السياسي والديني في المنطقة، وخوضها صراعات الوجود والطموح والرؤى النهضوية ومواجهة القوى الإقليمية والدولية آنذاك، جاء الكتاب الضخم (أزيد من 500 صفحة من القطع الكبير) سِفراً لأحداث مفصلية تتعلق بالثورة العربية الكبرى 1917، وخسارة الهاشميين الحجاز، بعد أن حكموها، وهم من أبنائها، سبعة قرون، ثم فقدانهم حكم سورية، انتقالاً إلى العراق الذي حكم فيه الهاشميون من خلال فيصل الأول، ثم نجله غازي، ثم فيصل الثاني نجل الملك غازي، مروراً بانتقال الأمير عبدالله إلى شرق الأردن في أكتوبر/ تشرين الأول من العام 1920، والتي بويع فيها أميراً وملكا، ثم تأسست على يديه المملكة الأردنية الهاشمية التي يجري هذه السنة الاحتفال بمئويتها الأولى.
ولعل الجديد في الكتاب ليس المادة التاريخية بذاتها، والتي تزخر بها المكتبات، وإنما عرض فواز شرف سلسلة الحوادث والتطورات من خلال سيرة والده الهاشمي، الشريف شرف بن راجح، الذي كان مقربا من الملوك: الحسين بن علي ملك الحجاز، وخلفه علي بن الحسين آخر ملوك الحجاز الهاشميين، وفيصل الأول ملك سورية ثم العراق، وغازي ملك العراق، وعبدالله أمير الأردن وملكه.. وفي سيرة الأب ما يفيد بأنه لم يندفع، ولم يسعَ إلى تبوّء مراكز عليا، لكنه كان يتحمّل المسؤولية بأمانة واقتدار، حين كانت تُلقى عليه، وبخوض المعارك بشجاعةٍ حين كان يُعهد اليه بقيادتها، وذلك منذ سني فتوته وشبابه في الحجاز، ثم لدى انتقاله إلى العراق بعد أفول مملكة الحجاز، وكانت نهايتها إيذاناً بقيام المملكة العربية السعودية، وفق حدودها الدولية المعروفة حاليا.
لم يتوانَ فواز شرف عن توجيه نقد لاذع وصريح، يستند إلى وثائق وشهادات، للوصي على العرش في العراق، الأمير عبد الإله
وإلى الأسلوب المشرق الصافي، والمتن شبه الأكاديمي الذي تميّزت به الفصول الأربعة الأولى ( 290 صفحة)، ثمّة ملاحظة رئيسة ذات أهمية خاصة، خرج بها كاتب هذه الكلمات، وهي أن المؤلف، وفي سياق عرضه لمعاناة والده في بلاد الرافدين، ضمن المعاناة العامة لشعب العراق، لم يتوانَ عن توجيه نقد لاذع مرير وصريح، يستند إلى وثائق وشهادات شهود، للوصي على العرش، الأمير عبدالإله بن علي. ولئن كان نقدٌ كهذا أمرا معهودا لدى سواد المؤرّخين والمعنيين بتاريخ العراق الحديث، فإنه للحق أمر جديد، وربما غير مسبوق، إذ يصدر بمثل هذا الوضوح من شخصيةٍ تنتسب إلى العائلة الهاشمية (المؤلف فواز شرف)، وبحق أميرٍ ينتمي إلى العائلة ذاتها، وقد كانت له أدوار مشهودة في تاريخ بلد عربي على جانبٍ من الأهمية، وهو الوصي عبد الإله الذي صعد إلى المنصب، إثر وفاة الملك غازي، في حادث اصطدام بعمود كهرباء وقع لسيارته الشخصية التي كان يقودها بنفسه. وهو منصبٌ لا سابق له في تاريخ العراق الحديث، بموجب قرار اتخذه مجلس الوزراء العراقي في 8 إبريل/ نيسان 1939، وقد بقي في هذا المنصب حتى قيام حركة 14 تموز (1958) التي أطاحت الحكم الملكي، باستثناء فترة بضعة أشهر، عُهد فيها بالوصاية للشريف شرف بن راجح.
وابتداءً، يشكك المؤلف في أهلية عبد الإله لهذا الموقع الذي جعل منه حاكما فعليا، ويسوق رواياتٍ أن عبد الإله نفسه سعى إلى هذا المنصب، بتصويره أمر الوصاية أنها وصية للملك غازي، وذلك خلافا للواقع، إذ كان الملك القتيل يمقت عبدالإله، ولم يكن الملك حتى على وفاق مع زوجته الملكة عالية، شقيقة عبد الإله. ويذكر المؤلف أن رئيس وزراء العراق مرّات عدة، نوري السعيد، هو من اقترح عبد الإله وتمسّك باسمه، فيما كان زيد بن الحسين مترشّحا قوياً، وتم استبعاده لزواجه من "آنسة تركية" كما ورد، وكذلك الأمير عبدالله بن الحسين الذي رؤي أن انشغاله بالحكم في شرقي الأردن يحول دون توليه هذا المنصب، وقد منح عبد الإله الجنسية العراقية بعد تسميته وصيا على العرش، إذ كان يحوز جنسيته الحجازية. ويكتب المؤلف أن القيادات السياسية العراقية لم تكن تعرف عن عبد الإله سوى أنه شغوف بالخيل وسياقاتها، بغير خبرةٍ في السياسة وإدارة الدولة وبدون معرفة بالرجال، واقتصرت خبرته على عمله ملحقا في وزارة الخارجية العراقية. ولو كان الملك غازي يفكّر في إسناد منصب الوصاية له، لأوكل إليه بعض الأمور المهمة التي تُكسبه خبرة وتمرساً "بدلاً من إهماله إهمالا معروفا، إذ أبقاه موظفا صغيرا في وزارة الخارجية".
اعتبر فواز شرف أن عبد الإله "قد مالأ البريطانيين على وطنه، ورمى بنفسه في أحضانهم".
وفي خضم الحراك العسكري السياسي على خلفية الموقف من بريطانيا، ورفضها تسليح الجيش العراقي وتدخّلها في الشؤون الداخلية، فقد نشط من عُرفوا بالعقداء الأربعة: صلاح الدين الصباغ وكامل شبيب ومحمود سلمان وفهمي سعيد، ومعهم رشيد عالي الكيلاني، وشكّلوا حكومة دفاع وطني، فلجأ عبد الإله إلى البصرة، وطالبت قيادة الجيش بالقبض عليه. وقد عاد، بعد حملة عسكرية بريطانية واسعة، أقرب إلى شنّ حربٍ أطاحت حكومة الكيلاني، وأعادت عبد الإله إلى بغداد. ومن المثير للانتباه أن القائد الذي نصّبته بريطانيا على الجيش الأردني، جون غلوب، قد شارك في هذه الحرب، وهذا بعد أن نصّب مجلس النواب الشريف شرف بن راجح وصيا بديلا على العرش، وهو ما أغار صدر عبد الإله عليه، علما أنه لم يُكِن له الود من قبل. وقد حكم على الشريف شرف بالسجن ثلاث سنوات، ومنعت عائلته من العودة إلى بغداد، وذلك كله بأوامر من الوصي. ينقل المؤلف عن مذكرات ناجي شوكت، وهو رئيس وزراء سابق ووزير سابق للداخلية في حكومة الكيلاني، "بعد أن دخلت غرفتي واستبدلت ملابسي بملابس السجن تأملت في الحاضر والماضي، وتذكرت كيف أني منحت عبد الإله الجنسية العراقية، بعد مقتل الملك غازي، حيث كنت وزيرا للداخلية، ولي الصلاحية المطلقة في منح الجنسية وحجبها".
ويعقّب المؤلف "لا شك أن تصرفات الأمير عبد الإله مع رجال الحركة القومية العربية في العراق تنمّ عن نفسية حاقدة، ونزعة قوية للانتقام والتنكيل بخصومه السياسيين، وهي نزعةٌ لا تتفق ومكانة رؤساء الدول المتحدّرين من أصلاب الملوك والأمراء"... على هذا النحو، ينبري المؤلف فواز شرف في تشريح شخصية الأمير عبد الإله وأدائه، معتبرا أنه "قد مالأ البريطانيين على وطنه، ورمى بنفسه في أحضانهم". وهذا النقد الذي ساقت المقالة هنا بعضا من مقاطعه وتفاصيله يدلل على (وهذا ما لم يقله المؤلف) مدى النقمة التي راكمتها المؤسسة العسكرية، ومن ورائها قطاعات شعبية عريضة عليه، والتي أدّت إلى حركة 14 تموز التغييرية والدموية، والتي وجهت سهام نقمتها الشديدة على الخصوص إلى كل من الوصي عبد الإله الذي تحوّل إلى ولي للعهد في السنوات الخمس الأخيرة، وإلى نوري السعيد.. وذهبت ضحيتها الأسرة الملكية بنسائها وأطفالها، وبالملك الشاب فيصل الثاني (23 عاما) الذي تحمّل وزر هذين الرجلين.