نعيم الخَرَف أم جحيم الزهايمر؟
لستُ أدري ما الذي جعل فجأةً، موضوعَ الخَرَف، واسمه العلميّ الزهايمر، الذي قد يصيب بعض كبارَ السنّ، موضوعا "مرغوبا" بامتياز، تتناوله الآدابُ والفنونُ المشهديّة على اختلافها، ويلاقي اهتماما ومتابعة متزايدة من الصنّاع والجمهور على السواء. وقد لا يكون مبالَغًا تصنيفُه "مرضا" غربيا عصريا يشغل بالَ الحكومات والمجتمعات والأنظمة الصحّية، إذ تتنامى أعدادُ المسنّين في العالم، نتيجة تقدّم الطب وتحسّن شروط الغذاء والمعيش في العالم المتقدّم، وحتما أيضا لأن الحضارة الغربية لطالما عرّفت ذاتها بأنها ثقافة العقل والعقلانية بامتياز، ما يجعل اختلالات هذا الأخير وآفاته أمرا مرعبا لكثيرين. أما في الشرق، فما زال العجائز بشكل عام "يخرفون" بطبيعية ودونما افتعال، محاطين بعوائلهم، آهلين زاويةً في المنزل إلى جانب العقلاء، متمتّعين بحصانةٍ يوفّرها العمرُ المديد وصلاتُ القربى وواجب الأولاد والأحفاد، وضرورة تبادل الأدوار ورعاية الكبار كما رُعوا هم حين كانوا صغارا.
في الماضي، كانت الحضارة الغربية تنظر إلى الخَرف أنه قرين الجنون، وإلى الجنون كونه رديفا للحقيقة والحرية والتفلّت من كل الموانع والقوانين. هكذا صوّر ثرفانتس بطله من دون كيخوته، فارسا هرما متوّهما قتّال أشباح وخائضا معارك وهمية ضد طواحين الهواء، في حين جعل شكسبير من الملك لير عجوزا لن يلبث أن يفارقه "بهلولُه" المهرّج، ما أن يهيم بدوره فاقدا صوابه، إثر خياراته الخاطئة وحرمان ابنته الصغرى، الوحيدة الصادقة، من بين بناته الطامعات الثلاث... لكنّ الحداثة، على ما يبدو، حوّلت خرف العجائز خطرا داهما وأرقاما مخيفة، حيث تكون نسبة انتشار المرض نحو 50% بين الذين في سن 85 عامًا وما فوق، في حين أنها أقلّ من 5% بين الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 65 - 74 عامًا. هكذا ازدهرت صناعة كاملة تستفيد من الذعر الذي يبثّه احتمال الإصابة بالزهايمر في النفوس، فلا تخلو صحيفة أو مجلة أو برنامج إذاعي أو تلفزيوني من كتب ووصفات وتمارين ونشرات ونصائح واكتشافات وحبوب وأعشاب عن كيفية الوقاية والدفاع والاحتماء والعلاج، أو من ذكر المبالغ الطائلة التي تُصرف سنويا على الأبحاث والتجارب والدراسات والاختبارات، فيما يسري الهمّ في ركب المسؤولين والمعنيين حول كيفية الاهتمام بمجتمعاتٍ تتزايد أعمارُ مسنّيها، وضرورة الإسراع في تأمين بنى جديدة لتوفير "مستقبل" لائق لهؤلاء.
ولا يعود النجاح الشعبيّ الذي عرفته أفلامٌ تناولت هذا الموضوع بالذات، ومن بينها أخيرا "الأب" الذي أخرجه الفرنسي فلوريان زيلر استنادًا إلى مسرحيته "الأب" الصادرة عام 2012 ، وفيلما "ستيل أليس" (2014) و"ذو نوت بوك" (2004) من قبله، إلى براعة الممثلين والكتّاب والمخرجين، بقدر ما هو نتيجة حساسية الموضوع ووقعه إنسانيا على المشاهدين، فهناك من ناحية مشاعر الذنب التي تنتج عن استيداع الأبناء أهاليهم في مؤسسات صحّية حكومية أو خاصة، وذلك لعدم مقدرتهم على تحمّل أعباء العناية بهم في مجتمعاتٍ ذات نزعة فردية، العمل فيها طاحن والنسيج العائلي والاجتماعي مهلهل، وإنما أيضا بسبب النظر في مرآة عيونهم ورؤية ما يمكن أن يؤولوا إليه بدورهم، مستقبلا. ومثلما نجحت جوليان مور في أداء دور المرأة "أليس" التي تكتشف إصابتها بالزهايمر قبل بلوغها سنّ الشيخوخة، فتخطّط لقتل ذاتها عندما تسوء حالتها، كذلك نجح أنطوني هوبكنز في إدخالنا إلى متاهة عقل المسنّ الخرف، فاقد الذاكرة ومرتبك الشعور بالمكان والزمان، وهو يخلط بين الحقيقة والوهم، الواقع وهواجسه، الأحياء والأموات.
إنها قمّة الهشاشة الإنسانية، معطوفة على وحدة الإنسان الحديث. هناك، حيث تفقد الذاكرة سقوفها وأعمدتها، تمّحي الألوان، تضيع التفاصيل، وتتشابك الوجوه. عمرٌ مديد، أجل، على ألا تكون نهايتُه في نعيم الخَرَف أو في جحيم الزهايمر.