نعيمة وحسن والآخرون

25 فبراير 2022
+ الخط -

على الشاشة، يبدأ فيلم "حسن ونعيمة" بزفاف إحدى القريبات؛ يفهم المشاهد من اللّقطات الأولى أنّهما مغرمان. وكالعادة، تحاول الشخصية الشرّيرة في الفيلم تفريق الحبيبين، والاستئثار بنعيمة، لكن حسن، المطرب الطيب، ينتصر بعد صراع طويل، وينتهي الفيلم بلحظة فرح وحب بين حسن ونعيمة. بغضّ النّظر عن الأداء الأوفر لسعاد حسني في هذا الفيلم، وضعف محرّم فؤاد ممثلا، إلا أن النّهاية السعيدة تخفّف على المشاهد انزعاجه من مسرحة الفيلم التي يعود جزء منها إلى أنها التجربة السينمائية الأولى لسعاد ومحرّم، والجزء الآخر إلى طبيعة السينما العربية آنذاك، فنّا لم يستقل بعد كلّياً عن المسرح في طريقة التمثيل.

جولييت المصرية نعيمة ليست سوى الفراشة التي تنتمي إلى شجرة أبيها الغني، وتقع في المحظور، حين أُغرمت بمغنٍّ. في الفيلم، لم تكن نعيمة البطلة، بل الفن في مواجهة عنف المجتمع التقليدي. وإذا قدّم الفيلم نهاية سعيدة، فإنّ القصة الحقيقية لحسن ونعيمة عرفت نهاية مأساوية، حين قُتل العاشق الفنّان وتم التّمثيل بجثته، بسبب اختلاف ديانته عن ديانة نعيمة، وليس بسبب كونه مغنّيا. لهذا رفضت أسرتها زواجها منه، وقتلته حين هربا معا ليتزوجا، وجنّت نعيمة بعد مقتله.

لعل كثيرين اعتبروا قصة حسن ونعيمة دلالةً على عنف المجتمع تجاه الحب، حين يحدُث خارج أعرافه، لكنها أيضا دلالة على ميل طرفي الحب إلى المخاطرة والمغامرة، بفعلٍ لا يستدعي عقوبة خفيفة من الوسط الاجتماعي، بل هو أحد دوافع القتل بلا رحمة. في ذلك الزمن، جلّ من وقع في الحب المحظور يوقّع على نهاية حياته، بالقتل أو الانتحار أو الجنون، فلا المجتمع يعفو، ولا العاشق يقدِر على مواصلة الحياة وقبول الهزيمة.

تتوالى القصص التي تشبه قصة نعيمة وحسن، عبر الأزمنة والأمكنة. ولا تتعلق كل أطرافها بالحب، بل بالخروج عن المألوف كيفما كان. مما ينعكس على الصّحة النفسية للضّحايا بشكل كارثي، فالذين نجوا من قصص وظروف بالغة الصعوبة، لم يَنجوا فعلا؛ حتى إن لم يبدُ عليهم ذلك، فقد انكسروا مثل مزهرياتٍ زجاجية. وعلى مدى زمني يختلف من حالة إلى أخرى، تظهر الآثار، ما يؤدي أحياناً إلى وفاة صاحبها، سواء بمرضٍ خطيرٍ أو باكتئاب حادٍّ قد يؤدّي إلى الجنون أو الانتحار.

حينما يقول بعضهم إن المنتحر لا مشكلات له في الفترة السابقة للانتحار، يتجاهلون ماضيه؛ فآثار الانكسارات والصّدمات العاطفية تدوم العمر كله، ولا أحد يعرف متى تسبّب انهيار صاحبها، وقد أثبت أطباء تسبب النّدبات العاطفية في أمراض خطيرة.

لعل هذا ينطبق على نعيمة أخرى، الكاتبة المغربية الهولندية نعيمة البزّاز، التي انتحرت قبل سنتين، وهي في قمة الشباب والجمال والإبداع. لكن من الذي كان يدري ما كانت تعانيه؟ من كُتبها، ندرك أن نعيمة البزّاز كانت شخصيةً صدامية، لم تلجأ إلى المرونة مع المحيط، الذي فاجأها بقسوته، لتنتقم منه في الكتابة. ومثلما هو عليه من بؤس، يعاقبها ويهدّدها ويحاصرها وينبذها أكثر، ويهدّدها لتخرس. لكنّها لا تستسلم لذلك، فكلّ ما لديها تجاه العالم هو الكلام. هذا العالم الذي لم يفهم ذلك، ولم يدرك حاجتها للتّنفيس بالكتابة عما عجزت عن مواجهته في الواقع، أو تتبيّن سُبل اللّيونة معه.

ولأن كل كتابةٍ تشبه صاحبها أو صاحبتها؛ فنعيمة لم تختلف حياتها عن بقية المهاجرات إلى أوروبا، اللواتي يجدن أنفسهن في مجتمعاتٍ مغلقة، يمثّل فيها الأقارب الحرس القديم لعادات القرى، التي حملها الآباء بأيدٍ لا تدع صغيرة أو كبيرة تقع خارجها. ويجد الأبناء صعوبة بالغة في المزج بين عادات الآباء وثقافة البلد الأوروبي الذي بلغ مستوى مختلفاً تماماً في التفكير. لذا كتبت نعيمة: "أنا برميل ملأتموه بالأحكام المسبقة، فمي كبير وسأقول كل شيء بشكل مباشر".

في نظر من يتعرّض للأزمات النّفسية، الخلل ليس فيه، بل في المجتمع. برهانا على ذلك، قال الكاتب الأميركي، ديفيد والاس، قبل انتحاره بثلاث سنوات، خلال خطابٍ له في إحدى الجامعات: "من يقوم بالانتحار ميّتٌ قبل سحبه الزناد بوقت طويل". ثم حين انتحر ترك جملة تفسر انتحاره بشكل حاسم: "سأودّع هذا العالم المجنون".

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج