نعومة "العدل الدولية" تُشرعن استمرار الحرب
ثمّة غموض كبير، وأسئلة عديدة أحاطت، وما تزال، بقرارات محكمة العدل الدولية التي صدرت الجمعة، ولاقت استجابات متفاوتة. في مقدّمتها السؤال الكبير: لماذا لم تطلب المحكمة وقف إطلاق النار (الأدق وقف العدوان) في قطاع غزّة، وهو رأس المطالب الملحّة في الدعوى التي تقدمت بها جنوب أفريقيا؟ هل ناقش القضاة هذا الطلب وكيف، وهل اختلفوا عليه؟ هل من المعقول أن يكونوا قد توصلوا إلى "إجماع" على شطبه؟ لماذا لم تقرأ رئيسة المحكمة نتيجة أي تصويتٍ على هذا الطلب، وتسرد علينا من أيّده ومن صوّت ضده كما فعلت مع بقية المطالب؟ هل كانت هناك تدخلات سياسية من أميركا أو القوى الغربية ضغطت باتجاه شطب ذلك الطلب الذي يضع إسرائيل وحربها الإبادية تحت شمس الإدانة القانونية الدولية ويأمرها بإيقاف جريمتها على الفور؟ ما هي مواقف القضاة العرب الثلاثة في هيئة المحكمة وغيرهم من طلب وقف إطلاق النار، ولماذا لم نسمع أن أياً منهم تحفّظ على عدم الإشارة إلى ذلك الطلب؟ سنحتاج إلى وقت طويل على الأغلب كي نعرف الإجابة على هذه الأسئلة أو بعضها أو غيرها مما لم يرد هنا. وليس أمامنا الان سوى المعطيات ونصوص القرارات التي أصدرتها المحكمة، كي نتأمل فيها.
ابتداءً، وكتمرين ذهني، لنتخيّل أن سيناريو المحاكمة والأطراف المنخرطة فيها كان معكوسا: اخترقت في 7 أكتوبر الماضي مجموعات إسرائيلية مسلحة الحدود مع دولة عربية، ودمّرت مواقع عسكرية واتهمتها تلك الدولة بأنها قتلت 1200 شخص بمن فيهم مئات المدنيين. تشنّ الدولة العربية حرباً طاحنةً ضد إسرائيل ذات التسليح الضعيف وتقتل أكثر من 26 ألف مدني إسرائيلي، وتدفع الى تهجير مليونين، بعد أن تشرّدهم من بيوتهم، وتقطع عنهم الغذاء والماء والدواء والوقود، وتدمّر مستشفياتهم، ومدارسهم، وكُنسهم، وتنسف مدنهم وأحياءهم. إسرائيل تتهم تلك الدولة العربية بممارسة إبادة جماعية، وينتهي الأمر إلى محكمة العدل الدولية.
في حالة افتراضية كهذه، ولو كانت الضحية إسرائيل، هل لنا أن نتوقّع أن قرار المحكمة سوف يكون على المنوال ذاته، وعلى "النعومة" التي صدر فيها، ومن دون أن يطلب الوقف الفوري للمقتلة؟ على الذين عبّروا عن ابتهاج فائض ورغبوي أن يبدّلوا الأدوار ويتأملوا في النتائج. يعودُ جذرُ جزء من الابتهاج إلى انخفاض سقف توقعاتنا: هذا الغرب الفاجر لن يعطينا أكثر من هذا، وعليه فما حصلنا عليه جيّد وفقا لمعايير تجربتنا التاريخية والانحيازية معه، وليس وفق معايير عدلية وقضائية. وهكذا يأتي تقييم قرارات المحكمة من منظورٍ غير موضوعي أساسا، بل من منظور الإقرار بعدم المساواة بيننا وبينهم. وعليه، من غير المتوقّع أن تنظر المحكمة إلى قضيتنا وفق معايير قانونية صرفة، تكون ذاتها المعايير التي تعتمدها في حال قلبنا الأدوار.
يوفر قرار محكمة العدل الدولية، بشكل غير مباشر، مسوّغاً لإسرائيل لإدامة حرب الإبادة
بعيدا عن السيناريو الافتراضي، من المهم والمُنصف التأكيد، موضوعيا، على أهمية النصف الملآن من الكوب قبل التطرّق إلى نصفه الآخر. الكثير مما قيل ويُقال عن أهمية القرارات التي أصدرتها المحكمة فيه مقادير كبيرة من الصحّة (برغم عدم وضوح الصورة الكلية وتسيد الغموض جزءاً من مشهدها). قبول القضية وعدم ردّها إجرائيا مكسبٌ مهم، ويُبقي الباب مفتوحا لمواصلة قضية الإدانة وإثباتها. ويفوق ذلك أهمية إقرار المحكمة احتمالية وشبهة حدوث إبادة جماعية ارتكبتها إسرائيل ضدّ الفلسطينيين، وإقرارها بتعرّض الشعب الفلسطيني إلى تدمير ممنهج. يُضاف إلى ذلك تعزيز المحكمة تعريف الكينونة الوطنية للشعب الفلسطيني، بأنه جماعة ذات تعريفٍ وطني وإثني من حقها الحصول على الحماية، هذا بالتوزاي مع تشريح الإجرام الإسرائيلي على مرآى العالم ومسمعه من فوق أهم منصّة قضائية في العالم. تتوزّع كل تلك الإيجابيات المهمّة على المديين، المتوسط والطويل، ومهمّة، وإن كان أهمها غير مضمون، خلاصتها بعد سنواتٍ، وفيما إن كانت إسرائيل ارتكبت إبادة جماعية أم غيرها. كما أن هذه الايجابيات ليست ذات أثر مباشر وفوري على المدى القصير، وهو المهم والمطلوب، وكلها لا تغطّي التساؤلات والخيبات التي ولّدتها المحكمة وقراراتها، وأبقت النصف الآخر من الكوب، أو ثلاثة أرباعه، فارغة، تحيط بها ملاحظاتٌ عديدة، منها:
أولاً، يوفر القرار، بشكل غير مباشر، مسوّغاً لإسرائيل لإدامة حرب الإبادة، وتستطيع إسرائيل القول بالفم الملآن اليوم إن ما تقوم به من إبادة في غزّة لم تعتبره غير قانوني أهم منصة عدل في العالم. ويساعد هذا طبعا الموقف الأميركي الداعم لتوحّش ما تقوم به إسرائيل، ولا يضع أي سقفٍ للحرب المجرمة. نعرف جميعاً أنه حتى لو صدر قرار بوقف الحرب، فإن إسرائيل ستلقي به في عرض الشارع، لكنه سوف ينزع أي غطاءٍ قانونيٍّ أو سياسي عن الحرب، ويحشر إسرائيل في مربّع الإدانة الدولية.
إذا كانت المحكمة قد أقرّت أن هناك "شبهة إبادة جماعية"، فمن المنطقي أن تطلب إيقاف كل فعل وكل فاعل له علاقة بتلك الشبهة
ثانيا، إذا كانت المحكمة قد أقرّت أن هناك "شبهة إبادة جماعية"، فمن المنطقي أن تطلب إيقاف كل فعل وكل فاعل له علاقة بتلك الشبهة، وبالتالي، أن تأمر بوقف الحرب، ريثما يتم التأكد من تلك الشبهة. كيف يمكن أن تقول المحكمة إن ما يحدُث وحيثياته يرتقي إلى احتمالات إبادة جماعية، ثم لا تطلب بوضوح وصراحة إيقافه؟ عدم المطالبة بوقف الحرب يقوّض عمليا ما تم النصّ عليه لفظيا في الإجراءات الاحترازية، والتي انصرف إليها جل اهتمام المحكمة وقراراتها.
ثالثا، الإجراءات الاحترازية التي طلبتها المحكمة من إسرائيل ليس لها مفعول عملي، ويمكن أن تتجاوزها إسرائيل بسهولة. وعملياً، يسمح منطوق تلك الإجراءات لإسرائيل مواصلة الحرب الإبادية مع الانتباه إلى ما ذكرته تلك الإجراءات، وسوف تقول إسرائيل إنها تتفادى قتل المدنيين، وإنها تحارب "حماس" فقط، وإنها تسمح للمساعدات الإنسانية بالدخول بل تدخلها من المعابر التي تشرف عليها. ورأينا جميعا صورا لجنود إسرائيليين يقدّمون الماء لإمرأة فلسطينية هنا او دواءً لطفل فلسطيني هناك، وسوى ذلك من التمثيل الإعلامي. وعملياً أيضا، جوهر المطالب التي تضمّنتها الإجراءات الاحترازية تردّد من الأسبوع الأول في تصريحات الرئيس الأميركي بايدن ووزير خارجيته بلينكن، واعتادت إسرائيل على هذه المطالبات ... نطالب إسرائيل بتقليص عدد المدنيين القتلى، ونشدّد على إسرائيل ضرورة السماح بالمساعدات الإنسانية، وسوى ذلك، وإسرائيل بدورها تردّ وتستجيب بطريقتها وبما تراه متوائما مع أهدافها. سوف نرى المسلسل نفسه مُعاداً برتابةٍ مع المحكمة الدولية، فيما يتواصل قتل الناس على الأرض وإبادتهم.
رابعاً، يُمكن أن تُرى خلاصات قرارات المحكمة على مستويين: واحد لفظي، وهنا ثمة إدانة مباشرة وغير مباشرة لإسرائيل، وهذا تم تصديره إلى الفلسطينيين لإرضائهم، والمستوى الآخر عملي وفيه يجري السماح لإسرائيل بمواصلة الإبادة، لكن "بنعومة" إعلامية أفضل، وهذا ما كانت تريده إسرائيل وأميركا.
ندخل الآن مرحلة أخرى من جعجعة قانونية وثرثرات مطوّلة توفر المزيد من الوقت لإسرائيل لمواصلة طحن الحرب
خامسا، أدخلت قرارات المحكمة القضية المرفوعة من جنوب أفريقيا نفق البيروقراطية الإدارية، وتمييع ما هو صلبٌ فيها عن طريق التقارير الشهرية، والتي تتضمّن أيضا موافقة من المحكمة على الحرب الإبادية: واصلوا الحرب لكن في كل نهاية شهر منها يجب عليكم تقديم تقرير يشرح كيف قتلتم المزيد من الفلسطينيين بطريقة قانونية.
سادساً، تبدو قرارات المحكمة كأنها قدّمت عصفورا مضمونا في يد إسرائيل، وهو عدم مطالبتها بوقف الإبادة وتوفير المسوغ القانوني لاستمرارها حاليا، مقابل عدّة عصافير على الأشجار قدمتها للفلسطينيين. إسرائيل وأميركا مهتمتان بما يحدُث الآن، أما ما يلي ذلك في السنوات المقبلة حين تناقش المحكمة تفاصيل القضية، لتخرج بحكم نهائي فإن لكل حادثة حديث. الوقت طويلٌ وبالإمكان تشغيل قنوات ضغط لتعديل او للجم أي قرارٍ تأخذُه المحكمة، لكن كل شيء في وقته. من يضمن أن لا تبرئ المحكمة اسرائيل بعد عدة سنوات من تهمة الإبادة الجماعية، وتميّعها إلى جرائم من نوع أخفّ وطأة؟ لنا أن نقول إن كل حكم ضد إسرائيل على مستوى القانون الدولي مفيد ومهم وجزءٌ من النضال التراكمي على كل الجبهات. لكن مرّة أخرى، ذلك كله عصافير فوق الأشجار.
سابعاً وليس أخيرا، توفر قرارات المحكمة قدراً كبيراً من الجعجعة القانونية التي سوف تنشغل فيها كل الأطراف، إزاء التفاصيل، والمتابعات، وفي طبيعة التقارير المقدّمة، وكذا التفسيرات والتأويلات والمطالبات، وغير ذلك. هذه جعجعةٌ تملأ فراغات العجز عن الفعل المطلوب، وهو وقف المجزرة. سبقت ذلك جعجعة سياسية انطلقت منذ الاسبوعين الأولين لحرب الإبادة كان محورها ضرورة وجود حلٍّ سياسي، والعودة الى تفعيل حلّ الدولتين. فجأةً، أصبح حل الدولتين على ألسنة الأميركيين والغربيين. وفّرت تلك الجعجعة الفارغة الوقت اللازم لإسرائيل لاستكمال حربها. ندخل الآن مرحلة أخرى من جعجعة قانونية وثرثرات مطوّلة توفر المزيد من الوقت لإسرائيل لمواصلة طحن الحرب والولوغ في الدم الفلسطيني.