نصر ميسّي

27 ديسمبر 2022

ميسّي يرفع كأس العالم في استاد لوسيل في الدوحة (18/12/2022/Getty)

+ الخط -

بقدر ما كانت لعبة للتسلية، فإنّ أحداث كأس العالم لكرة القدم في قطر كانت أيضاً شيئاً أكثر جديّة. يعلّل ذلك حضور أمراء ورؤساء وزعماء في المباراة النهائية بين فريقي فرنسا والأرجنتين، وحجم الانفعالات المصاحبة لمجريات المباراة، البكاء والدموع بنوعيها؛ دموع الفرح والحزن. وكذلك جملة من المسارات المرتبطة بحركة هذه الكرة على حشائش الملعب، من قضايا الثقافة والاقتصاد إلى العلاقات العامة والسياحة.
ربما كان الفرنسي رولان بارت من أوائل المثقفين المعاصرين الذين قاربوا الألعاب الرياضية ثقافياً وحاولوا تحليلها، فيذكر في كتابه "أساطير" عن كرة القدم: "يجب أن نتذكّر أولاً أنّ كلّ ما يحصل للاعب يحصل أيضاً للمتفرّج. ولكن في المسرح ليس المتفرّج إلّا بصّاصاً، وفي الرياضة هو ممثل". وربما في تحليل الفرق بين حلبتي المسرح وكرة القدم سنرى ما يقصده بارت أنّ الجمهور هو ممثل أيضاً، بالإضافة إلى اللاعب على حشائش الملعب، فاللاعب هنا لا يمثل دوراً مكتوباً سلفاً، وإنما دور ينسجه ارتجالاً مع جمهوره المتفاعل معه، ومع بقية اللاعبين والتوقعات المتبادلة ما بين الخصوم.
يمكننا أن نضيف بعداً ثالثاً، إذا سلّمنا أنّ كرة القدم، والرياضات الجماهيرية المشابهة، هي نوع من المسرح، وهذا البعد الثالث هو الدين، بجانبيه الطقسي والميتافيزيقي. فمن دون أدنى شك، تحيل لعبة كرة القدم، بأعرافها المعروفة، إلى نوع من الطقسية المشهدية التي تشابه الطقوس الدينية، فاللاعب هنا لا يمثّل نفسه فقط، وإنما فريقه الذي يحمل شعاره في القميص الذي يرتديه، وهو يخوض معركةً رمزيةً للدفاع عن اسم بلده أو فريقه، إنّها معركة ذات شرف، وليست مجرّد لعبة للتسلية. كما أنّ الجمهور يتّحد مع لاعبيه المفضّلين، ويغدو النصر الذي يحققه اللاعب نصراً بالإنابة للجمهور المتفرّج والمتحمّس.
المباراة التي يخوضها فريقي المفضّل هي بالنسبة لي، أنا المتفرّج، من أشكال معركة الخير مع الشر، وعلى الرغم من أنّ الخير والشر هنا افتراضيان، فإنّني - المتفرّج - أتصرّف على وفق هذه الترسيمة الأولية. ويمرّ متفرجون كثيرون بمشاعر لا عقلانية، حين يجدون أنفسهم يهتفون أو يصرخون بملاحظة انتقادية أو نصيحة لأحد اللاعبين، حتى وإن جرى ذلك عبر الشاشات، ويعرف المتفرّج المنفعل أنّ اللاعب الذي يصيح عليه لا يسمعه. ولدى المتفرّج هنا ما يدفعه إلى يقين، ولو مؤقتاً، بأنّه يؤثر على مسار اللعبة، وأنّ بروده قد يساهم بخسارة فريقه المفضّل.
شعر كثيرون في العالم بأنّ مزاجاً استثنائياً صاحَب المباراة النهائية، وهي مباراة حملت نسبة عالية من الإثارة، قد لا تقارن بأيّ نهائي لبطولات سابقة. كان هناك مزاج عام يريد النصر للفريق الأرجنتيني، وتحديداً لكابتن الفريق ليونيل ميسّي. كان صديقي الذي يجلس بجواري لمشاهدة هذه المباراة مشجّعاً تقليدياً للفريق الفرنسي، لكنّه قال لي إنّه يريد من ميسّي أن ينال الكأس. جزئياً، بسبب الضغط الذي يمثله تأييد العائلة والأصدقاء ميسّي، لكن بدرجة أكبر، (عند هذا الصديق وغيره) لأنّ القصّة المثالية يجب أن تنتهي بهذه الطريقة: أن يرفع ميسّي الكأس عالياً في ختام البطولة.
هذه القصّة ميتافيزيقية، فيها أنفاس دينية عن صراع الخير والشرّ، ويجب أن ينتصر ميسّي حتى نثق - نحن المتفرّجين البشر- بأنّ هناك أملاً في أن تكون الحياة واضحة فعلاً، بين خيارات محددّة، كما كرة القدم، وأنّ الخير ينتصر دائماً. لأنّه إذا لم ينتصر فماذا سنفعل مع غموض المعنى في هذه الحياة يا ترى؟!
ضخّ انتصار ميسّي دفقة أدرينالين هائلة في عروق بشرٍ كثيرين، ومنحهم نشوة ميتافيزيقية، جعلتهم جميعاً يشعرون بتطابق الأحلام والرغبات والأوهام مع الواقع، في التقاء فريد. قد تبخل به الحياة الواقعية على الأغلب. وها نحن، نقف في ظلّ الشمس الساطعة، بعد انتهاء نشوة هذا النصر الميتافيزيقي العظيم، أو كما تقول أغنية غجرية إسبانية قديمة:
ياه
لقد انتهت الألعاب النارية
يا لها من عزلة...
يا له من خواء.

أحمد سعداوي
أحمد سعداوي
كاتب وروائي عراقي