نزاع داخلي في إسرائيل
فاز اليمين بشكلٍ واضحٍ في إسرائيل، باحتلاله 64 مقعداً في انتخابات الكنيست في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. وقد جرى اعتبار الحكومة التي نتجت عن تلك الانتخابات أنّها الأكثر تطرّفاً في تاريخ إسرائيل، وتعبيراً عن جوهرها الأيديولوجي، تريد أن تصبغ الدولة بلونها المميز، وتضع بيدها أغلب القرارات المهمة التي تدخل في صلب الحياة الاجتماعية والسياسية، مستغلة فجواتٍ كبيرة في الشكل القانوني لدولة إسرائيل. وترغب الحكومة الجديدة في شلّ حركة المحكمة العليا، بتشكيل لجنة لتعيين قضاتها، تكون للحكومة أغلبية فيها، مع قدرة الكنيست على ردّ أحكام المحكمة العليا بغالبية 61 مقعداً، وهو تحصيل لحاصل، فلا حكومة تمارس عملها الكامل من دون أن تحصل على أغلبية الـ 61 مقعداً. وبهذه القرارات، تحل الحكومة محل القضاء، خصوصاً محلّ المحكمة العليا، لتصبح التشريعات في الدولة ذات طابع سياسي خالص، لا تستطيع حتى المحكمة العليا تغييرها إلا في نطاقٍ ضيق، الأمر الذي يعني إلغاء إحدى السلطات الأساسية، وهي سلطة القضاء، وهذا تعطيل رسمي للديمقراطية التي تقوم بالأساس على استقلالية الجسد القضائي عن الإرادة السياسية.
تُمارس إسرائيل السلطة من دون دستور مكتوب ومصدّق من الشعب، أو من سلطات تشريعية مخوّلة، فهي تعيش وتغيّر حكوماتها وأعضاء الكنيست فيها، وتتصارع الأحزاب حول كراسي النفوذ من دون ناظم موحّد وأساسي لعملها، رغم أن القرار الثاني المتّخذ من المجلس الوطني اليهودي الذي تأسس في فلسطين إثر قرار التقسيم مباشرة، وبعد إعلان قيام الدولة، هو قرار كتابة دستور لدولة إسرائيل خلال أربعة أشهر. وقد مضى على ذلك التاريخ 75 عاما من دون أن يتمكّن 25 كنيست من كتابة دستور، وهو تواطؤ آخر غير مكتوب للتهرّب من تحديد جغرافي لدولة إسرائيل، التي استمرت منذ قيامها بحكم نفسها بقوانين تسمّيها قوانين أساسية، وهي تشريعات فضفاضة تخصّ قضايا محددة، ولا ترقى في مجموعها لتكون دستوراً، وأحد تلك القوانين الأساسية قانون القضاء، وهو نصٌّ شديد الاقتضاب يقول: إذا واجهت المحكمة قضية قانونية يتعذّر حلها بواسطة نصوص القانون، يتوجب الرجوع للبتّ فيها إلى مبادئ الحرية والعدالة والسلام والتراث الإسرائيلي، ووقع هذا القانون في ظل حكومةٍ يمينية كان رئيسها مناحيم بيغين.
شعر اليمين الإسرائيلي الحالي بأن معظم الأحكام الصادرة عن المحكمة العليا ذات طابع عدائي لأيديولوجيتهم، وظنّوا أنّ حقوقهم مغبونة في ظل هذا القانون، وبهذه النوعية من القضاء، فقرّرت الحكومة تغييرا تاريخيا في نطاق القضاء، يشمل طريقة اختيار القضاة. وبالنظر إلى شكل نتائج الانتخابات، كان من المتوقع أن تجد هذه التغييرات صدى مرحبا به في الشارع الإسرائيلي، لكن النتائج الإحصائية تقول إنّ ربع الإسرائيليين فقط يمكن أن يوافقوا على هذا التغيير. وجاء الرد من الشارع الذي استطاع أن يحشد مائة ألف معترض عبّروا بوضوح عن الرفض القاطع للاقتراح، وعن استعدادهم للنزول إلى الشارع أسبوعا بعد أسبوع، حتى إسقاطه. ولكن الحكومة اليمينية زادت من إصرارها، وأبدت لاحقاً انفراجاً باستعدادها لمناقشة الاقتراح من دون الاستعداد لتغييره، ظهر الانقسام بحدّة وشكل فوالق عريضة في المجتمع الإسرائيلي، وظهرت أصوات تخوّف من المواجهة الأهلية داخل المجتمع.
يُظهر الإصرار على قانون إصلاح القضاء وإصرار الشارع على مواجهته أزمة هوية في إسرائيل، تبيّن أن الـ 75 عاما المنصرمة منذ إعلان الدولة دولة لم تعرّف نفسها بهوية محدّدة، وغير قادرة، أو لا ترغب، في كتابة دستورها الذي يحدّد مميزاتها المجتمعية والسياسية والجغرافية، وغير قادرة على الفصل بين مسارها العلماني الليبرالي ونزعتها الدينية المتطرفة، وتريد أن تتبنّى المسارين بشكل متوازٍ رغم التضارب الموضوعي بينهما، وهي حالياً بعد وصول المتطرّفين إلى سدة الحكم تريد إلغاء السلطة القضائية بالكامل لصالح مجموعة سياسية ذات نزعة دينية وراديكالية خطيرة، وتهدّد فعلياً بمواجهة قد تتطوّر بشكل خطير إلى نزاع داخلي مدمّر.