نزار بنات شهيد حرّية مجتزأة
تكاد قصة الشهيد نزار بنات تكون تقليدية. ناشط من الخليل، له مواقف سلبية من اتفاقيات السلام مع إسرائيل. توازيها مواقف بالغة البذاءة والفظاظة تجاه كل ما يتعلق بالثورة السورية وأصحابها، وبدول عربية من خارج محور الممانعة. وبحبّ شديد لبشار والأسد وجيشه ولحسن نصر الله. وفي المقابل، كراهية لا تقلّ حدّة تجاه إسرائيل، وتجاه السلطة الفلسطينية "حاكمة" الضفة الغربية. أخيراً، قام بما هو أخطر من إطلاق الرصاص: فضحَ صفقة اللقاح الفاسد التي أبرمتها السلطة الفلسطينية مع إسرائيل. فما كان من "زوّار الفجر"، أجهزة الأمن التابعة لهذه الأخيرة، إلا أن اعتقلته من بيته في منتصف الليل، وردتّه إلى أهله مقتولاً، وعلى جثته آثار تعذيب شديد.
المواقع التبادلية والإعلامية كلها استنكرت هذه الجريمة، التي لم تتجشّم السلطة الفلسطينية عناء إخفاء أدلتها. ومن بين المستنكرين سوريون معارضون لنظام بشار الأسد. وهذه إشارة إلى أن هؤلاء لم يكونوا كما يُزعم، واضعين القضية الفلسطينية على الرفّ، متناسين آلام أصحابها الطويلة. المهم أنه بعيد ذلك بقليل اكتشف واحد من هؤلاء المعارضين شرائط يوتيوب تعود إلى نزار بنات، منها قديم وآخر حديث، وكلها تحتوي على العبارات المعيبة إياها. وانتشرت الشرائط على الشبكة، فانقلبت الحالة، من تعزيةٍ وحزنٍ إلى شماتة بمقتله، وما هنالك من تعبيرات الحنق والندم من الترحّم عليه. وتبعها ذاك السجال العنيف بين أحرارٍ يناهضون إسرائيل، والسلطة الفلسطينية المطواعة، وأحرار آخرين يناهضون النظام الأسدي، وداعميه من دول ومن مليشيات.
بعد مقتل نزار بنات شهدنا سجالا عنيفا بين أحرارٍ يناهضون إسرائيل، والسلطة الفلسطينية المطواعة، وأحرار آخرين يناهضون النظام الأسدي وداعميه
هكذا، ومن دون سابق تصوّر، عادت المقارنة تفرض نفسها بين السلطة الفلسطينية والنظام الإسرائيلي، من جهة، وبين نظام بشار الأسد، من جهة ثانية. الأولى، السلطة الفلسطينية، التي تشبه غيرها من السلطات العربية: فاسدة، قمعية، مذعنة، تحاصُصية، أنشط أجهزتها هي الأمنية. تعتقل، تعذِّب، وأحياناً حتى الموت، وتصْدر بعد ذلك بيانات "القيد ضد مجهول"، و"نتيجة إهمال طبي". والثانية إسرائيل، لا تكتفي باحتلالها فلسطين، إنما تستوطن في المزيد منها، تهجّر، تعتقل، تسجن، تطلق الرصاص، تنتهك الحرمات والمحرمات، تصادر الممتلكات. فإذا قارنّا بين هذه المجموعة، وبين نظام بشار الأسد، فإنّ الأخير لا يقلّ ديناميكية في القتل الجماعي، والاعتقال والتعذيب، والتهجير، والإفقار، ومصادرة الممتلكات، لا بل إذا اهتممتَ بالنِسَب والأعداد، فيمكن تلخيصها بأنّ الملايين الذين قتلهم بشار، وعذَّبهم وسرقهم وهجّرهم، بالكيميائي أو بالبراميل المتفجرة أو بالغارات والمذابح، هم بحر في نقطة ضحايا إسرائيل وأجهزة أبو مازن الأمنية. هذه المقارنة ليست جديدة، لكنّها تفرض نفسها كلما تحصل واقعةٌ من تلك الوقائع المثيرة لهذا النوع من الجدَل الانقسامي، وعمره من عمر تجلّي المشروع الإيراني في المشرق العربي.
منذ عشرين سنة ونحن نكرّر عناوين هذا الجدل، مع تطويراتٍ يفرضها الحدث، فأصبحت له خطوط حمراء، ثابتة، وعناوين، ولغة وكلمات.. كلها واضحة ومرسومة رسمةً تكاد تكون رياضية، فبدا المشهد "الثقافي - السياسي" العربي، المشرقي بالذات، كأن معركةً داخليةً كبرى تطْحنه، تشتّت طاقاته... بين محورين: الأول ضد إسرائيل، وضد السلطة، طالب للحرية، بصدق، كما يجب ان نفترض عند الجميع، إلا القادة. لكنّه، في المقابل، مرحِّب ببشار الأسد، ينتشي لجرائمه وما إلى ذلك، على أساس أن بشار "محارب لإسرائيل".
شهدنا ظواهر غريبة، كأن ترى أحدهم، مثلا، من دعاة الحرية المناهضين لحافظ الأسد، فيما هو مدعومٌ من صدّام حسين، ويسكن في بحبوحته
ومن الأعراض الجانبية لهذا الانقسام أن القضية الفلسطينية عند المناهضين لهذا المحور، المناهضين لنظام بشار الأسد، باتت ثانوية، وأحياناً ملغاة من الذهن. مع أن الحرية لا تتجزأ، كما يقول جميع طالبيها. وبالتوازي، الذين يقفون على النقيض، تجدهم متجاهلين جرائم بشار، مشجّعين عليها بعباراتٍ خبيثةٍ أو صريحة. وهم بذلك لا يخرجون عن تقاليد اتّبعتها القوى الديموقراطية الحرّة الغربية التي سيطرت على المشرق، والتي رأت، من منطلقات مصلحية "جيوستراتيجية"، أن ممارستها واعتناقها الحرية ودفاعها عنها في عقر دارها لا تسري، بالضرورة، على الشعوب التي استطاعت أن تسيطر عليها وتقرّر مصيرها. إنما العكس تماماً، ينطبق عليها الاحتلال والقتل والنهب. أي عكس الحرية التي تسْتشْرس تلك القوى للدفاع عنها في ديارها.
ونحن ورثنا هذه المعضلة التناقضية، ومن زمان. ومن نظيراتها، تلك المواقف التي كانت تصدر عن شعراء، أو كتّاب، أو محازبين، في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته وبعض تسعينياته، والقاضية بـ"نضالهم" من أجل الحرية السياسية والثقافية. معتمِدين على أنظمةٍ ديكتاتوريةٍ معادية للنظام الذي "يناضلون" ضده، لا يقلّ تسلّطاً عنه واعتباطاً.. فترى الواحد منهم، مثلاً، من دعاة الحرية المناهضين لحافظ الأسد، فيما هو مدعومٌ من صدّام حسين، ويسكن في بحبوحته. والعكس تماماً أيضاً، معارضٌ لصدام يدعمه حافظ الأسد أو معمر القذافي.. إلى ما هنالك من "حالات" ذاعَ صيتها في المنطقة وقتها.
كثيرون من أصحاب المواقف المتناقضة يسكتون بعد نقاش مضنٍ وصاخب، فيلوذون إلى توقع، أو رجاء، بأن خصمهم غلطان.. لن يبقى على ما هو عليه، وسوف يغيّر رأيه مع الوقت والتجربة أو أي دافع آخر. لكنّ الواقع أن هذا الانقسام مكتوبٌ له حياة طويلة، حتى لو هدأ قليلاً. يعتمد على تراثٍ مشرقي، وربما إنساني، تراثٍ يمنح الانقسام سرّ الوجود والحياة. تحييه الحروب، صاحبة الفضل في تكوين غنائم هذا الانقسام، وأثريائه الجُدُد.
الترحّم على بنات واجب. كان طالباً مخلصاً للحرية. لكنّه اكتفى بحريةٍ مجتزأة، بنصيبٍ محدود منها
ولأن هذا الانقسام منطلقٌ من معيوشٍ مختلف، في بقعة جغرافية لها أعباؤها وقيودها وضغوطها، وبالتالي دفاعاتها. ولأن هذا المعيوش يقتصر على حيٍّ أو طائفة أو وطنٍ مسلوب بأكمله، فإن التخلص من عبء كل "مادياته" يتطلب درجةً عاليةً من التجريد والموضوعية، يفتقر إليها من يعيش ظروفاً قصوى.
لذلك، لن يختفي هذا الانقسام. قد يدوم، وقد يتفرّع عنه انقسام من نوع آخر، أو انقسامات. قد تخفّ حدّته في أوقات السلم. لكنّه الآن في عزّه، ونحن محاطون بحروبٍ ومشاريع حروب احتمال حروب، حروب صغيرة كبيرة، ذات ألوانٍ لا تُحصى من "الظروف القصوى" هذه: جوع قمع تهجير قتل إفقار سرقة.. وتلك حروب أنظمةٍ عاتية على شعوبها، وعلى شعبٍ احتُلت أرضه. ولا بد، بالتالي، أن تكون البروباغندا عالية الصوت، مستنفرَة، عاملة بكامل طاقتها.
الترحّم على نزار بنات واجب. كان طالباً مخلصاً للحرية. لكنّه اكتفى بحريةٍ مجتزأة، بنصيبٍ محدود منها. وقد دفع حياته ثمناً لهذا القدر منها.