نرجسية إسرائيلية وخداع أميركي وهشاشة فلسطينية
باتت المواقف أكثرَ وضوحاً في التعاطي مع حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرّة والمتواصلة في قطاع غزّة، التي تستهدف بالأساس تصفيةَ القضية الفلسطينية وحسم مسألة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي مرّةً واحدة. وتسعى إسرائيل بشكل واضح إلى الاستثمار في "7 أكتوبر"، باعتباره فرصةً سانحةً لتصحيح أخطاء الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، التي لم تنجح في حسم الصراع وإنهاء المسألة الفلسطينية، وخصوصاً حكومات ديفيد بن غوريون التي لم تستكمل عمليات طرد ومحو وإزالة السكّان الفلسطينيين، خلال نكبة مايو/ أيّار العام 1948. وكذلك حكومة ليفي أشكول، الذي لم يُصحّح "الخطأ" في حرب الأيّام الستّة (يونيو/ حزيران 1967).
يتزعّم اليمين الصهيوني المُتطرّف، بقيادة رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو، خيار حسم الصراع بدلاً من إدارة الصراع الذي هيمن على العقل السياسي الإسرائيلي طوال السنوات الماضية، هذا الحسم الذي لن يتأتّى إلّا بإخضاع الحياة لقوّة الموت في الأراضي الفلسطينية، وإيجاد بيئاتٍ طاردةٍ للحياة، تدفع الفلسطيني قسراً أو طواعيةً إلى الهجرة خارج الأراضي الفلسطينية. لطالما اعتبر الفلسطينيون أنّ تعزيز وجودهم في الأرض، والحفاظ على بقائهم، هو جوهر إدامة القضيّة الفلسطينية حيّةً، الأمر الذي دفعهم، على اختلاف مشاربهم، إلى ابتكار الأدوات كافّة لتعزيز صمودهم في الأراضي المحتلّة، وإفشال المخطّطات والسياسات الإسرائيلية السابقة، التي حاولت إنهاء المسألة الفلسطينية، فنجحت الجهود الفلسطينية سابقاً في التصدّي لاستراتيجيات الجسور المفتوحة التي ابتدعها مناحيم بيغن لتشويه الهُويَّة الفلسطينية في سبعينيّات القرن الماضي، كما أفشلوا فكرة روابط القرى في الضفّة الغربية نهاية تلك الحقبة، وقد عمدت إسرائيل من خلالها إلى ضرب بنية التمثيل الفلسطيني (منظّمة التحرير الفلسطينية). كما نجح الصمود الفلسطيني في مواجهة سياسات الأسرلة والتهويد التي تحاول إسرائيل تكريسها في القدس الشرقية وضواحيها، إضافةً إلى سياسة التمايز والفصل عبر "الكانتونات" المنفصلة والمفصولة "زمكانياً"، التي تعمل على تكريسها في الضفّة الغربية، إضافةً إلى محاولتها فصل قطاع غزّة عن الضفّة الغربية، وإخراج غزّة من السياق الوطني، لضرب الكيانية الفلسطينية المتمثّلة في وحدة مصير الأراضي الفلسطينية في الضفّة (بما فيها القدس) وغزّة.
جاءت تلك المحاولات من الحكومات الإسرائيلية السابقة في ضوء هيمنة فكرة إدارة الصراع على العقل السياسي الإسرائيلي، الذي كان يذهب إلى التعاطي مع الفلسطينيين من منظور الحقوق الاقتصادية، بعيداً من حقوقهم السياسية والمدنية، وجميعها فشلت أمام الصمود الوطني الفلسطيني.
تنطلق حكومة اليمين المُتطرّف في إسرائيل من منظورٍ مختلفٍ للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وهو المنظور القائم على فكرة حسم الصراع، وترى في أحداث "7 أكتوبر" فرصةً قد لا تتكرّر لشرعنة أهدافها ومخطّطاتها التصفوية للقضية الفلسطينية، مستفيدةً من الضوء الأخضر الممنوح أميركياً وغربياً لـ"حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، عقب اللطمة الكُبرى التي وجّهتها لها فصائل المقاومة في قطاع غزّة. ذهبت إسرائيل إلى الاستثمار في التهديد الوجودي الذي شكّله لها القطاع، من خلال جملة ممارسات إسرائيلية في الأرض تهدف، في الأساس، إلى استكمال عمليات الطرد والتهجير للشعب الفلسطيني، باعتبار أنّ النكبة ليست مُجرَّد حدثٍ انتهى، بقدر ما هي عملية مستمرّة ومتواصلة في العقل الإسرائيلي، وها هي الفرصة المواتية لشرعنة استمرارها أمام المجتمع الدولي.
وظّفت الولايات المتّحدة المفاوضات والمقترحات الأميركية الإسرائيلية لوقف حرب الإبادة أداةً لذرّ الرماد في عيون العالم
وبينما تواصل إسرائيل إبادتها أشكال الحياة كافّة في قطاع غزّة، وتحاول نقلها إلى الضفّة الغربية، وتحديداً إلى شمالها؛ جنين ونابلس وطولكرم، تمارس الولايات المتّحدة، بقيادة الرئيس بايدن، ووزير خارجيته أنتوني بلينكن، الخداع الاستراتيجي مع دول العالم كلّها، فعمدت إلى التسويف والمماطلة وشراء الوقت، لتواصل إسرائيل إشعال نيران محرقتها في جسد كلّ طفل وامرأة ورجل فلسطيني. وقت يتيح لإسرائيل الحرّية الكاملة في تكريس سياساتها في الأراضي الفلسطينية، والإقليم بأسره. وظّفت الولايات المتّحدة المفاوضات والمقترحات الأميركية الإسرائيلية لوقف حرب الإبادة أداةً لذرّ الرماد في عيون العالم، ولتكبيل قدرة المجتمع الدولي في اتّخاذ أيّ خطوات من شأنها أن تلجم السياسات العدوانية الإسرائيلية. في المقابل، لا يمكن لأيّ متابع أو مهتمّ بالشأن الفلسطيني أن يُغفِل، في التحليل، طبيعةَ دور الإدارة الأميركية في التسويف والمماطلة والانحياز الواضح للمطالب والمواقف الإسرائيلية كافّة، وتضمينها في رؤيتها لـ"اليوم التالي" للحرب على غزّة، التي تسعى من خلالها إسرائيل إلى حسم المسألة الفلسطينية نهائياً، من دون أن تُقدِّم "تنازلات حقيقة" تجاه الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وفق قرارات الأمم المتّحدة المرفوضة إسرائيلياً. بات الدور الأميركي واضحاً في تخدير الرأي العام الدولي، وفي تبريد الإقليم، وفي لجم القوى الرافضة سياسات إسرائيل، وتجريدها من أيّ فعلٍ مقاومٍ أو مناهضٍ رافضٍ للعربدة الإسرائيلية.
أثبتت الحربُ على غزّة فشلَ الحقل السياسي الفلسطيني في تجاوز الخطر الوجودي الحالي الذي يهدّد القضيّة الفلسطينية
فلسطينياً، علينا الاعتراف بأنّ المشهد السياسي الفلسطيني مأزوم، وبأنّ ظلال أزمته قد ألقت بنفسها على الموقف من الأحداث الجارية، وبات واضحاً أنّ الانقسام السياسي الداخلي الذي فشلت القوى السياسية الفلسطينية في إنهائه أو تجاوزه في مدار 18 شهراً، قد أسهم في دفع الفلسطينيين جميعهم إلى أن يكونوا متلقّين وغير مُقرِّرين فيما يُحاك في الغرف المغلقة أميركياً وإقليمياً بشأن المستقبل الفلسطيني، وشكل "اليوم التالي" لحرب غزّة، (ولا يزال)، غياب الرؤية الفلسطينية المُوحّدة جوهر الأزمة الفلسطينية، التي تعاني من حالة الانكشاف أمام الجميع، وأثبت هذه المقتلة والمحرقة الإسرائيلية فشلَ الحقل السياسي الفلسطيني في إثبات جدارته في حمل القضية الفلسطينية، وفي تجاوز الخطر الوجودي الحالي أمامها، كما كشف صحّةَ الدعوات السابقة إلى ضرورة تفعيل منظّمة التحرير وإصلاحها، وتفعيل أجسامها كافّة، كي تستعيد دورها التاريخي في تمثيل الشعب الفلسطيني، بمختلف أطيافه وألوانه وأماكن وجوده، وفي أن تحمل رؤيةً وطنيةً موحَّدةً تجمع تحت ظلالها القوى السياسية والاجتماعية، بعيداً من سياسة الإقصاء والتهميش والاستفراد، وبات مطلوباً حالياً، لكي يتمكّن "الكلّ" الفلسطيني من الاستثمار الوطني في التضحيات الكبرى، التي تُقدّم في غزّة والضفّة الغربية، التوجّه إلى مصالحةٍ تاريخيةٍ ضروريةٍ تعيد الاعتبار إلى البيت الفلسطيني الجامع بصفته الكيانية والتمثيلية، وتعيد معه ترتيب الأولويات والمنطلقات الفلسطينية، وتحديد الأدوات والآليات المطلوبة للتصدّي إلى محاولات التصفية الإسرائيلية، وهو ما لا يمكن تحقيقُه في ضوء استدامة العقل الانقسامي المهيمن على التفاعلات والعلاقات الفلسطينية الداخلية.
لا تزال الفرصة أمامنا قائمةً لامتلاك زمام المبادرة وفرض "اليوم التالي" بمنظور وطني فلسطيني شامل، ولكنّه يحتاج منّا أن نتجاوز مُربّع الانقسام والتفرّد والإقصاء، وهذا السؤال الكبير الذي ينتظر الإجابة من "الكلّ" الفلسطيني.