نحن و"كانديد" وزراعة الحدائق

09 ديسمبر 2020
+ الخط -

سألني في حوار عبر الهاتف: "هل تتذكّر الشاب كانديد في رواية فولتير"؟ أجبته: "وما علاقة كانديد هذا بما نحن فيه"؟ قال: "حالنا، نحن العراقيين، ليست أقلّ شرورا من الحال التي عاشها كانديد في عصره، وقد أمسينا نحمل قدرا من التشاؤم واليأس لا يقلّ عما حمله، ولم يعد أمامنا سوى أن ننصرف لزراعة حدائق بيوتنا"... وترجع فكرة "زراعة حدائق بيوتنا" إلى الحكيم التركي العجوز الذي نصح الشاب كانديد أن يعكف على زراعة حديقة منزله، لأن القضاء على الشرور التي تسود العالم أمر صعب. وكان فولتير يسخر بذلك من دعوات فلاسفة عصره إلى إشاعة نزعة التفاؤل والفرح التي تخفّف من وقع تلك الشرور وآثارها. 

ويبدو لنا، نحن العراقيين، أننا معنيون أكثر من غيرنا بنصيحة الحكيم التركي العجوز، فقد تجمعت الشرور في بلدنا، مذ قدّر له أن يسقط في قبضة حفنة أفاقين ولصوص لا شأن لهم بفنون الحكم وإدارة الدولة، واستوطنت تلك الشرور حتى أصبح الخلاص منها أقرب إلى المستحيل. وبفعلهم تحول بلدنا إلى ميدان للعبة الأمم ولألعاب الطوائف والأعراق والقبائل، وبتنا نبحث عمّن يشعل لنا ولو شمعة واحدة في آخر النفق الطويل. 

تحول العراق إلى ميدان للعبة الأمم ولألعاب الطوائف والأعراق والقبائل، وبتنا نبحث عمّن يشعل لنا ولو شمعة واحدة في آخر النفق الطويل

هذا خلاصة قراءة في أوضاع الساحة العراقية وتداعياتها الماثلة أمام عيوننا، على امتداد سبعة عشر عاما أعجف، وهي تستدعي التأمل والتفكير في ما قد تقود إليه من تغييرات حادّة أو عبثية وانقلاب في المعادلات التي روّج عديد من المحللين ثباتها ورسوخها، وما نراه على السطح ليس سوى الهدوء الذي يسبق العاصفة. والعاصفة، هذه المرّة، كما تبدو طلائعها، إيرانيةٌ خالصة، محكومةٌ بقواعد الرؤية الطائفية الأحادية التي تمثلها "ولاية الفقيه"، والتي ترفض الآخر وتنفر منه، وقد انبرى لتنفيذها زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، الذي "تأبّط شرّا"، وخرج من صومعته حاملا سكّينه، لينهال بها على رؤوس ثوار تشرين، بغرض الإجهاز على الانتفاضة/ الثورة وتصفيتها، وداعيا إلى ترميم "البيت الشيعي"، وراسما لنفسه مهمة القيادة وتحقيق أغلبية برلمانية، وتسمية رئيس الوزراء القادم. وقد عبّرت تغريداته الغارقة في اللؤم عن هذه الرؤية، من خلال زعمه أن "الدين والمذهب والوطن في خطر"، وأن "ساحات الثورة أصبحت مكانا للفاحشة ومعصية الله"، ولسان حاله: من غيري يمكن أن يتطوّع لمواجهة الخطر، ومن غيري يستطيع تقويم الثورة والثوار؟ 

ولكن واقع الحال ينبئنا بأن الدعوة إلى ترميم "البيت الشيعي" وإعادة الحياة إليه عبر تحالف أقطابه المعلومين: نوري المالكي ومقتدى الصدر وهادي العامري وعمّار الحكيم ليست من بنات أفكار الصدر الذي كان يرمي دائما إلى الانفراد بالزعامة لنفسه، وإنما هي فقرة من مجموعة توجيهات (اقرأ: أوامر) المرشد الإيراني علي خامنئي التي حملها قائد فيلق القدس، إسماعيل قاآني، في زيارته اللافتة أخيرا إلى بغداد، والتوجيهات الأخرى التي سمعنا خبرها من فم ناشط سياسي على صلةٍ بما جرى في بغداد، والتي تتلخص في "العمل على تهدئة المليشيات الولائية، وحثها على استمرار الهدنة مع الأميركيين، إلى حين وصول جون بايدن إلى البيت الأبيض، والتركيز على العمل السياسي والإعلامي، والنأي بالبيت الشيعي عن صراع المليشيات والسعي إلى رأب الصدع داخل صفوفها، واستقطاب قياداتٍ شابّة جديدة من السنة والأكراد ودعمها بالمال، واحتواء انتفاضة تشرين واختراقها، والسعي إلى زج بعض الناشطين في العملية السياسية، بما يخدم مصالح إيران وأمنها القومي". 

تطورات حادّة في الوضع العراقي، قد تنعكس سلبا على المصالح الأميركية في العراق والمنطقة

إلى هنا، و"السيناريو" لم يكتمل بعد، لأن ثمّة عقبات في الطريق ينبغي تذليلها، وفي مقدمتها الإشكالات التي تفرزها توجهات الإدارة الأميركية الجديدة، وموقفها من أية تطورات حادّة في الوضع العراقي، قد تنعكس سلبا على المصالح الأميركية في العراق والمنطقة، ومواقف الدول المحيطة بالعراق التي لها، هي الأخرى، رؤيتها ومصالحها، والتي لن تكون مطمئنة لهيمنة طهران الكاملة على القرار العراقي. وفي الحساب أيضا مواقف قوى محلية لها حضور لا يمكن تجاوزه، مثل حكومة إقليم كردستان التي تحظى برعايةٍ غربية، وكذا الكتل السنية المحسوبة على خانة الولايات المتحدة.

وعلى أية حال، ما يجري لن يدع العراقيين ينصرفون إلى "زراعة حدائق بيوتهم"، وإنما ستظل عيونهم تراقب ما يحيط بهم، وسوف يكونون أكثر تحفّزا ويقظة لما تخبئه لهم الأيام، وهم، في كل الأحوال، لن يكونوا متفائلين بالقدر الذي حملته مقولة الفيلسوف الألماني، لايبنتز، الذي كان موضع سخرية فولتير: "هنا كل شيء على أفضل حال في أفضل عالم ممكن".

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"