نحن وغزّة لا نلتقي
لماذا تسبقنا غزّة دومًا؟ يتجدّد هذا السؤال، كلما عرّضتنا تلك الرقعة الجغرافية الضئيلة لطوفان نفسيّ لا يقلّ شراسة عن طوفانها الحربيّ، ولا تترك لنا غير اللهاث خلفها بالدعاء، والتظاهرات، وصلوات "الغائب" التي كان حريًّا بنا أن نصلّيها علينا بوصفنا "الغائبين" الحقيقيين عن معارك المصير.
نحن وغزّة على طرفي نقيض، وما دون ذلك خداعٌ بصريّ، فثمّة فجواتٌ شتّى تجعل اللقاء صعبًا، أبرزها طول القامة التي تتفوّق فيه علينا. وكلما سألناها أن تنحني لتتساوى أطوالنا أبت وتمنّعت، لأنها تعلم جيدًا أن انحناءة واحدة كفيلة بإفقادها قامتها التي بذلت في بنائها سنواتٍ طويلة هدرناها نحن في محاولات التكيّف مع سقوف الجحور وبيوت النمل.
وما بيننا وبينها فجوةٌ وطنيةٌ إن شئنا توصيفها، علينا أن نعرف أولًا كيف نجت هي من حظائر التدجين الرسميّ، التي أخفقنا نحن بالتحرّر منها، ليس لأنها لم تصدّق حاكمًا عربيًّا يومًا، ولا لأنها لم تُسلّم قيادها لمفاوضين ودبلوماسيين يقودونها إلى طاولات "الأمر الواقع"، بل لكونها عرفت أنها تواجه خصمًا "حالمًا" لا يعترف بالواقع وأمره، حرّكه حلم قديم إلى هذه الأرض، والحلم لا تحدّه خطوط النهاية، وكلما وجد فرصة لتمديد الحلم سيقتنصها حتمًا. ولذا، اختارت غزّة أن تواجه الحلم بالحلم؛ لأنها تعلم أن حلمها أكبر وأعظم، وأغزر مشروعية، مدركةً أن حلمها قابلٌ للتمدّد أيضًا، حتى وإن بدأ من نفق، ومن قطع "أنتيكا"، وخردوات، فالأهم هو التصميم، والمثابرة، والإيمان بأن المعجزات يمكن أن تكون صناعة بشرية.
ومقابله، كان حلمنا "الوطنيّ" يتصاغر تباعًا بمضيّ الأيام وتعاقب الحكّام الذين يتناسلون بنسخ أصغر قاماتٍ، وأقلّ أحلامًا، لا همّ لهم غير مناعة حدودهم، وقصورهم، وحرّاسهم، وتبعيّتهم لأسيادهم، وهجمات تطبيعهم التي جعلوا منها غزواتهم الجديدة، وفتوحاتهم المحسّنة لـ"العدوّ"، فقد حاصروه من كلّ الاتجاهات، في طوابير طويلة، بانتظار أن يسمح لهم بالدخول، لتقبيل يديه، وطلب العفو عن "الأخطاء" القديمة، والتوسّل إليه بأن يقيم له قاعدة عسكرية في بلادهم، أو إشراكهم في مناورة عسكرية، على الأقل، مع جيشه الذي "لا يُقهر". كان صعبًا أن يكبُر لنا حلم مع هؤلاء "الصغار"، أو ترتفع لنا قاماتٌ في زنازينهم، ومعتقلاتهم، أو حتّى في قصورهم، لأن المؤهل الأول لمن يودّ التقرّب منهم أن يسلّم رأسه للحاجب على الباب، وأن يختن إرادته، وأحلامه، وآراءه المخالفة، وأن يدرّب نفسَه على انحناءة أبديّة، لا انتصاب بعدها.
أمّا عندما يركلنا طوفان غزيّ، يذكّرنا بأن لنا قامات منسية، وأحلامًا أكل عليها الحكّام وشربوا، يكون اللحاق به صعبًا، لأنه طوفان عاصفٌ وسريع، ليست فيه محطّة انتظار واحدة نركن إليها، نحن السلاحف التي لم تعتد مثل هذه الإيقاعات العاجلة، على الرغم من أن "الطوفان" يكون موجّهًا، في جانب منه، إلينا نحن "المشاهدين"، يريدنا أن ننخرط فيه، ونزيده اندلاعًا وأوارًا، يخترق غلافنا وتحصيناتنا المكتظّة بالدهون والشحوم، وأبراج مراقباتنا التي تدوّي صفارات إنذارها، كلما حاولَت أن تتسلّل إلينا رياح التغيير والنهوض، فنغلق النوافذ ونستريح. والذي يهزّه الحنين إلى أحلامه الدفينة لا تتجاوز ردود أفعاله التحسّر، والتأوّه على "الضحايا"، وفي أفضل الأحوال يراجع برنامجه اليوميّ ليعرف إن كان ثمة وقت "فراغ" يسمح له بالانخراط في تظاهرة ما تطهّره من "عذاب الضمير"، قبل أن يعود إلى بيته متحرّرا جذلًا، بعد أن أدّى واجبه "الوطنيّ" بما يقتضيه واجب "التضامن"، والأخوة.
ما أصعب اللقاء بغزّة، التي عرفت كيف تصنع كرامتها بعيدًا عن عربها، لأنها تدرك أن لا كرامة لها بين عرب هذا العصر، لكنّها تجترّ غصّتها المرّة وحدها، لا من أعدائها الذين تكبُرهم حلمًا وقامة، بل من أشقاء راهنت على أن يرتفعوا إليها حالما يندلع الطوفان، وراهنوا هم على أنها ستنحني مثلهم في نهاية المطاف... لكن هيهات.