نحن مع من: روسيا أم الأطلسي؟

17 فبراير 2022
+ الخط -

لا يمكن أن نعزل أنفسنا، نحن العرب، عن الأحداث العالمية، وخصوصًا الأحداث المهمة، وهي القادرة على صنع منعطفاتٍ في الخريطة الدولية، وفي تشكيل النظام العالمي، كالتوتُّرات التي تحيط بأوكرانيا؛ نتيجة التهديدات الروسية، واحتشاد الدول الأوروبية والولايات المتحدة، لمنع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، من التأثير عليها، بردعها عن الانضمام إلى حلف الناتو، أو تقديم ضماناتٍ أطلسيةٍ لصالح أمن روسيا، وفق مفهومه، وذلك بالضغط، والتلويح بالقوة العسكرية، فقد أضاءت هذه البقعة على حالة الخلخلة في موازين القوى الدولية، سيما بعد تتابُع العلامات على تراجُع القوة الأميركية، بعد تعاقب الإدارات الأميركية، منذ جورج بوش الابن، وحتى الرئيس الحالي، جو بايدن، ومرورًا بالرئيس دونالد ترامب، على تخفيف وجودها العسكري في مناطق عدَّة، منها في الشرق الأوسط، كما العراق، والقرن الأفريقي، كما الصومال، ومنها في آسيا، حيث أهمية الوجود الأميركي لمواجهة الصعود الصيني. وعلى الرغم من هالات القوة لديه، وخطاباته الهجومية، لم يختلف ترامب على تخفيف التورُّطات الأميركية العسكرية في الحروب التي لا تنتهي، كما إبرامه اتفاق الدوحة، فبراير/ شباط 2020، مع حركة طالبان، ووافق بموجبه على الانسحاب من أفغانستان، مقابل تعهُّد "طالبان" بمنع أيّ هجمات معادية تنطلق من أراضيها ضدّ أميركا، أو غيرها، فالسياسية الأميركية، استراتيجيًّا، ظلَّت تتصف بالاستمرارية، حتى في العلاقة مع أوروبا لم يختلف بايدن عن ترامب في محاولات الحدّ من الاختراقات الروسية، كما أظهرت مواقف ترامب من اعتماد ألمانيا على الغاز الروسي، وتعييرها بأن ذلك سيجعلها رهينةً بيد روسيا. وموقف بايدن الراهن من أزمة أوكرانيا يصبّ، أيضًا، في تعويق تدشين خط الغاز "نورد ستريم 2". وفعلًا، كان ترامب وقَّع قانونًا يفرض عقوبات على أيِّ شركة تساعد شركة غاز بروم المملوكة للحكومة الروسية، في استكمال مدِّ خط أنابيب الغاز الروسي إلى أوروبا. وكان لافتًا أن تكون معارضة هذا المشروع الذي يقلِّل من حصة الولايات المتحدة، في سوق الغاز الطبيعي المسيل، في المنطقة الأوروبية، من الحزبين الديمقراطي والجمهوري.

كان الانسحاب من أفغانستان من تلك العلامات المؤدِّية إلى تناقص الهيبة الأميركية، نفَّذه بايدن بطريقة هُروبية، جرَّت عليه انتقاداتٍ داخلية واسعة وحادّة، وأسهم، كما رأى ترامب، في تشجيع بوتين على التهديد بغزو أوكرانيا. وبالطبع، لم يكن هذا هو السبب الوحيد الذي جرَّأ بوتين على التحرُّك العدائي، والدفاعي، في آن، تُجاه أوكرانيا، ولكن ضعف الموقف الأوروبي وانقسامه؛ تبعًا، لمصالح دولها مع روسيا، وخشية قادتها من تداعيات اشتراك بلدانهم المباشر في الحرب المحتملة، على حظوظهم الانتخابية.

ضعف الموقف الأوروبي وانقسامه أحد أسباب تجرّأ فلاديمير بوتين تجاه أوكرانيا 

نعم، لا يمكن أن نكون بمعزل، عن هذه الأحداث، وهي تدور بين دول كبرى فاعلة، وفي إعادة اصطفافها تأثيرٌ مؤكَّد على بلادنا، والنزاعات الجارية فيها، كما في سورية، مثلًا، حيث تركت الولايات المتحدة روسيا/ بوتين تصول وتجول. ولهذا الصراع تأثير، أيضًا، على دور دولة الاحتلال في سورية، حيث تسمح لها موسكو بتنفيذ هجماتها ضد إيران، وهي لذلك تحاول أن لا تُغضِب روسيا، بتأييد أوكرانيا، وَفْق صحيفة يديعوت أحرونوت التي كتبت أنَّ إسرائيل أوقفت تزويد أوكرانيا بمنظومة القبَّة الحديدية المضادّة للصواريخ؛ تفاديًا للمواجهة مع روسيا. وأوضحت أنَّ إدارة بايدن، وقادة الكونغرس، تفهَّموا الحذر الإسرائيلي، بالنظر إلى الأوضاع في سورية، والوجود الروسي هناك، وبالتالي تصرَّفوا "بحساسيةٍ ومسؤولية" تُجاه الملف.

يبقى السؤال يساور، مع مَن نقف؟ وأين مصلحتنا؟ مع أن الإجابة تفترِض وجود وَحْدةِ مصالح عربية، وهو الأمر غير المتحقِّق، على الصعيد الرسمي، ثم إنه يفترِض وجود فاعليةٍ عربية سياسية، وهي المفتقَدة، أصلًا. وعلى الصعيد الشعبي، قد يدفعنا ما شهدناه من غطرسة روسية تدميرية في سورية، وفي دعم بوتين الجنرال المنشقّ، خليفة حفتر، إلى دعم الموقف الغربي في هذا الصراع، وخصوصًا، حين نتذكَّر مقادير الهمجية في الأداء الروسي، كما تظهر في استخدام مرتزقة فاغنر، (وقد شاركت في سورية)، إذ كشف تحقيق لـ "بي بي سي"، في أغسطس/ آب الفائت، عن حجم العمليات التي تقوم بها مجموعة فاغنر، من المرتزقة الروس، في الحرب الأهلية في ليبيا. ويظهر "قائمة مشتريات" لمعدَّات عسكرية متطورة، من أحدث طراز، قال شهود خبراء إنها لا يمكن أن تأتي إلا من إمدادات الجيش الروسي، وعُرِف عنهم افتقارُهم أيّ مدوَّنة سلوك، فهي أشبه بعصابات إجرامية، لم تتورّع عن قتل الأسرى، وتعمّد قتل المدنيين، وزرع الألغام في المناطق المدنية، من دون وضع علاماتٍ عليها. وتلك الأفعال ترتقي إلى وصف جرائم الحرب.

مع استحضار بشاعة التغلُّب الروسي، إلا أنه ليس في وسعنا أن نتمنَّى الانفراد الغربي الأميركي

ومع استحضار بشاعة التغلُّب الروسي، إلا أنه ليس في وسعنا أن نتمنَّى الانفراد الغربي الأميركي، ونحن نرى برود واشنطن، بل دعمها المطلق جرائم دولة الاحتلال في فلسطين، وقد شهدنا ما فعلته في العراق، وفي سورية، وفي أفغانستان، وجديد علامات الصَّلَف الأميركية توجُّه بايدن نحو التصرُّف بسبعة مليارات دولار، من أصول البنك المركزي الأفغاني، كما ذكر تقرير لصحيفة نيويورك أنَّ بايدن يعمل على تقسيم هذه الأصول، ليحصل أهالي ضحايا هجمات 11 سبتمبر على 3.5 مليارات دولار، فيما يذهب نصف المبلغ الآخر للمساعدات الإنسانية لأفغانستان. وفي غضون ذلك، ينهار الاقتصاد الأفغاني، ويعاني ملايين الأفغان ظروفًا إنسانية بالغة الخطورة. وبايدن بهذا التوجُّه يقرِّر وضْعَ يده على أموالٍ هي ملكٌ للشعب الأفغاني، ويعاقب الشعب الأفغاني، فيما بلادُه هي التي فشلت في منع حركة طالبان من الوصول إلى الحكم. وبالتوازي مع ذلك، لا تتوقف إدارة بايدن، عمليًّا، عن دعم نظُمٍ عربية متورِّطة في قمع شعوبها، وفي تضييع مقدَّرات بلادها.

ليس الصراع الدائر حول أوكرانيا بين الخير والشر، كما هو معروف، وإذا كانت السياسة الراهنة لا تحتكم إلا إلى المصالح، فقد ننتظر اختلالاتٍ تُفضي إلى قبضةٍ روسيَّةٍ أقلَّ إحكامًا، في نهجها الإجرامي، وانشغالاتٍ أميركية أقلّ اقتدارًا، على مساندة العدوان، احتلاليًّا إسرائيليًّا أم دكتاتوريًّا عربيًّا.