نافالني .. كيف تغير الصحافة الاستقصائية العالم
كيف أطلق المعارض الروسي، أليكسي نافالني، أوسع موجة معارضة يواجهها بوتين؟ خارجيا، يصف بايدن الرئيس الروسي بالقاتل، وداخليا تندلع المظاهرات. لماذا اكتسب نافالني كل هذه الأهمية، على الرغم من عدم انتمائه لأي حزب؟ الإجابة بكلمتين: الصحافة الاستقصائية.
مبكرا، تنبه نافالني إلى أهمية ذلك المجال ومدى إمكاناته، أسّس مؤسسة "إف بي كي" غير الربحية لمكافحة الفساد، وعبرها عمل مع فريقٍ من الصحافيين لنشر تحقيقاتٍ بالغة الإزعاج للسلطات، حتى توج ذلك بفيلمه الأخير "قصر بوتين" الذي كاد يكلفه حياته. وعلى الرغم من أن الفيلم طويل (ساعتان)، إلا أنه تجاوز المائة وخمسة عشر مليون مشاهدة. اتهم الفيلم بوتين بامتلاك قصر فاره بقيمة 1,3 مليار دولار، يشمل حدائق شاسعة، وملعب هوكي الجليد تحت الأرض. استند التحقيق إلى صور القصر باستخدام مصادر صور الأقمار الصناعية المفتوحة، وأيضا طائرات "درونز"، بالإضافة إلى بحث مدقّق بسجلات ملكية الأراضي والشركات ذات الصلة، فضلا عن شهادات عمال في المنطقة.
توصل التحقيق إلى أن بوتين يملك القصر عبر مؤسسة غير هادفة للربح، تحمل اسم "مبادرة التنمية الزراعية"، بينما يملك الأراضي المحيطة به بمساحة نحو سبعين كيلومترا جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، وأن من قام بالسداد هم مجموعة من أقرب أصدقاء بوتين وزملائه في الدراسة، وكلهم شكلوا طبقة رجال أعمال منتفعة حوله. وأظهرت المعلومات أيضا إغداق الممتلكات على حريم القيصر، حتى أن والدة بطلة الجمباز السابقة إلينا كاباييفا، والتي يتردّد بشدة أنها عشيقة بوتين، يظهر أنه تم منحها شقة فارهة عبر شركة تابعة لشركة "غاز بروم" الحكومية.
بعد بث الفيلم بأسبوع، تعرّض نافالني لظرف صحي غامض، سرعان ما تبين أنه محاولة تسميم حسب اتهام الأطباء الألمان. .. هنا تظهر الصحافة الاستقصائية من جديد، وهذه المرّة تمكّن تحقيق ضخم، شاركت فيه مؤسّسات بيلينغكات وسي إن إن وديرشبيغر، من تحديد أسماء 12 متعاملا مع جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، تولوا منذ 2017 مراقبة نافالني، وحاول ثلاثة أشخاص منهم تحديدا تسميمه بمجال تصنيع غازات الأعصاب.
نشر "بيلينغكات" ملحقا مطولاً يشرح منهجية التحقيق، مثل أن مصدر الحصول على قواعد بيانات آلاف رحلات الطائرات والسجلات الوصفية للهواتف المحمولة هو عبر سوق سوداء متوفرة في روسيا تحديدا، حيث يبيعها موظفون صغار بقنوات محدّدة معروفة على تطبيق تيليغرام. والكلفة لا تتعدى عشرات أو مئات من اليوروات.
إذا كان العالم قد شهد، مع انطلاق وسائل التواصل الاجتماعي، طفرة في تأثيراتها الاجتماعية السياسية، فإن الأعوام الأخيرة تشهد طفرة في آثار الصحافة الاستقصائية في العالم.
في منطقتنا، شهدنا تحقيق مؤسسة "بيلينغكات" لتوثيق مقطع مصوّر لجريمة إعدام أسرى على يد القائد العسكري الموالي لخليفة حفتر في ليبيا، محمود الورفلي، وهو ما تم إدراجه رسميا بأدلة المحكمة الجنائية الدولية التي أصدرت أمر ضبطه. وبالمثل، اعتمدت منظمة حظر الأسلحة الكيميائية رسمياً أدلة صحافية قادمة من سورية. وعالمياً شهدنا عمل فريق نيويورك تايمز على ملفات ضرائب ترامب، وغيرها الكثير.
تتطوّر أدوات الاستقصائيين سريعا، وعلى الصحافيين اليوم أن يلاحقوا ما يستجدّ، لأن هذا ما سيجعل صحافيا يسبق أقرانه، أو وسيلة إعلام تصنع الحدث لا تنتظره. وفي السياق نفسه، لا يقلّ الاعتناء بتسويق المادة أهمية عن المادة. جانب كبير من نجاح فيلم نافالني كان بسبب الفيديو الذي تمت صياغة محتواه بأسلوب جذّاب ومضحك.
في المقابل، لدى بعض الصحافيين نقد لمؤسسة نافالني، حيث هي لا تقدّم صحافة خالصة بمعايير الحياد المهني المعروفة. في نهاية الفيديو، ظهر نافالني يدعو الشعب إلى التظاهر في الشوارع، ويخبرهم ألا يظنوا أن هناك من سيشبع من السرقة ويتنازل عن الحكم طوعا، وهو ما يثير جدلا معتادا بين قبعتي الصحافي والناشط السياسي. وعلى جانب آخر، لنافالني نقاط قوة أخرى. مثلا، مواقفه المختلفة عن المسطرة الليبرالية المدعومة غربيا، مثل تأييده غزو القرم عام 2014.
مهما كان حجم مساهمة الصحافة، فإنها بالتأكيد قد فعلت، وفي ظل التضييق الشديد على العمل الإعلامي والسياسي في دول مختلفة في المنطقة، تكتسب أدوات الاستقصاء أهمية أكبر.