موسم التطبيع وازدراء اليمن
ليس من باب العجب أو التناقض أن كل الأبواق الإعلامية المبشرة بالتطبيع مع إسرائيل هي ذاتها التي لا تكف عن ازدراء اليمن وتاريخه والسخرية منه، المسألة متلازمة في معظم الحالات، إن لم يكن مجملها. فالبوق الإعلامي أو السياسي الذي يستخدم عادة لأكل الثوم بفمه نيابة عن أسياده لكي يقوم بأكثر المهام وضاعة، كترويج ما لا يمكن قبوله، وهو التطبيع وتصوير إسرائيل صديقا، وما كان بين العرب وإسرائيل كان مجرّد سوء فهم طارئ لا علاقة له بالكيان الاستعماري، ولا بسياسات إسرائيل التوسّعية وطبيعتها العنصرية.
اللافت أن هذا كله يترافق في خطٍّ متوازٍ مع مهمة أخرى بائسة، وهي ازدراء اليمن والتقليل من شأنه، بل وصل الأمر بكتّابٍ خليجيين إلى أن يتساءلوا عن وجود كيان يمني تاريخياً، بينما سعى بعضهم إلى ترويج المشروع الاستعماري البريطاني، أن جنوب اليمن ليس يمنياً، بل اتجاه جغرافي يدعى الجنوب فيما أطلق عليه اسم الجنوب العربي، وهي فرضيةٌ لا تقسم الجنوب عن الشمال، بل تقسم الجنوب نفسه، فلا شيء يربط حضرموت ببقية الجنوب لو لم تكن الهوية اليمنية حاضرة. أما الهوية الجغرافية (الجنوب) فليست رابطا كافيا للحفاظ على وحدة الجنوب، والهوية العربية التي قد تجعل علاقة حضرموت بالجنوب مثل علاقة العراق أو السعودية بالجنوب، فهذا ليس أكثر من دعوة صريحة إلى تقسيم الجنوب.
تقسيم اليمن باستدعاء الإرث الاستعماري البريطاني في الجنوب، وليس إرث الدولة الاشتراكية، أمر له عدة دلالات، دعوة تستدعي أكثر المشاريع رجعيةً وتخلفا
تقسيم اليمن باستدعاء الإرث الاستعماري البريطاني في الجنوب، وليس إرث الدولة الاشتراكية، أمر له عدة دلالات، فهي دعوة تستدعي أكثر المشاريع رجعيةً وتخلفا من الناحيتين، الاقتصادية والاجتماعية، فباستثناء نموذج عدن الكوزموبوليتي، كان باقي الجنوب في حالة تخلّف شديدةٍ عن العصر، فلا مدارس ولا مستشفيات ولا طرق، بل مناطق يعمّها الجهل والفقر. هي أيضاً دعوة تنظر إلى الاحتلال العسكري والارتهان للخارج باعتبارهما ميزة وليست إشكالية، على الرغم من أنه كثيرا من مشكلات الجنوب في أصلها هي نتاج مرحلة الاستعمار الطويلة، والتي أول ما حاولت ضربه الهوية اليمنية لكي تقسّم الجنوب، وهذا ما حدث طوال مرحلة الاستعمار البريطاني، حيث كان الجنوب منقسما إلى ما يزيد عن عشرين سلطنة ومشيخة، ولم يوحدها سوى الدولة الاشتراكية ضمن إطار الهوية اليمنية وبهدف الوحدة اليمنية.
هكذا تكتمل المتلازمة الخاصة بالمطبّعين، وهي فقدان بوصلة انتمائهم، فإسرائيل صديق واليمن غير موجود سوى بوصفه عبئا ثقيلا واسما لا تاريخ له، ما يعني مزيدا من الارتهان للخارج الذي لا يمكن أن يكون من دون الترافق مع أكثر المشاريع الاقتصادية والاجتماعية تخلفاً وانعداماً للمساواة، إضافةً إلى أنها مشاريع صديقة للديكتاتوريات، فكلما خشيت الأنظمة من شعوبها زاد ارتهانها للخارج.
التفاوت السياسي بين الجمهورية والملكية والتفاوت الاقتصادي بين الدول البترولية والدولة اللا بترولية، أحدث تحدياتٍ كبيرة في العلاقة بين اليمن وجيرانه الخليجيين
سابقاً في الخمسينيات والستينيات، وقت الحراك الخليجي والعربي إجمالاً نحو التحرّر، وتبني مفاهيم سياسية أكثر حداثةً ضمن المد القومي الصاعد حينها، كان اليمن مرتكزا لكل هذه المطالب لدى شعوب الخليج، ليس فقط بسبب عمقه التاريخي والبشري الحيوي للخليج، بل باعتباره جزءا أساسيا من هذا الحراك، ونموذجا ملهما في نضالها ضد الاستعمار الذي تكلل بهزيمة البريطانيين، وانسحابهم مبكراً من عدن عام 1967، وقبلها تبنّي الشمال النظام الجمهوري. كانت أيضاً المتلازمة واضحة بين التحرّر والمد القومي مع تبني مشاريع اجتماعية واقتصادية أكثر مساواة، في تطلع جريء إلى المستقبل، وليس خوفاً منبعه الهشاشة والخفّة كما هو الحاصل حالياً.
ظل اليمن في الوجدان الخليجي يعبر عن عمق تاريخي وبشري، وتمت الاستعانة باليمنيين في الجيش والأمن، وعمالا وتجّارا أيضا، كلهم ساهموا بحيويةٍ في بناء الخليج ونهضته العمرانية. والأهم أنه لم ينقص مشاركتهم في هذا إخلاص، وكانت تتّسم بالأمانة الشديدة في المعاملة. على المستوى السياسي، كان توتر كثير يشوب العلاقات اليمنية - الخليجية، خصوصا مع أكبر جيران اليمن (السعودية)، فالدولة السعودية بطبيعتها المحافظة، والتي لا تدعم أيا من أشكال التغيير، كانت دوماً قلقة، تنتابها الشكوك والمخاوف من جارها المضطرب، والذي لا تتوقف تقلباته السياسية ومحاولاته المتعثرة دوماً للنهوض، سواء لأسباب ذاتية تخصّ اليمنيين أو لأسبابٍ خارجيةٍ تتعلق بطبيعة جيران اليمن، وفي مقدمتهم السعودية.
التفاوت السياسي بين الجمهورية والملكية والتفاوت الاقتصادي بين الدول البترولية والدولة اللا بترولية، أحدث تحدياتٍ كبيرة في العلاقة بين اليمن وجيرانه الخليجيين، وعوائق لم يستطع أيّ منهما تجاوزها بنجاح. كانت نموذجا مكثفا لفشل المنطقة العربية ككل في التعامل مع هذه الثروة الهائلة التي جاءت بلا مجهود يذكر، وتحولت العلاقة بين الدول العربية البترولية الثرية وتلك الفقيرة إلى علاقة مأزومة بشكل دائم، يشوبها الشكوك والقلق والكراهية المتبادلة في فشل كامل بتحقيق الحد الأدنى من التكافل أو التعاون الاقتصادي، بل أصبحت الأموال تُمنح منحاً من دول الخليج لأغراض جيدة أو سيئة، وفي جميع الحالات هي عطايا تبني علاقات مسمومة بكل ما تعنيه الكلمة من اختلالات الهيمنة القائمة على المال فقط من طرف والمهانة والاستسهال من طرف آخر.
جاءت الهرولة الخليجية إلى التطبيع، بعد أن رأت نفسها مكشوفة أمنياً بلا حماية أميركية أو عربية
لم يكن هذا الاختلال سوى تعبير عن الأزمة التي وقعت فيها المنطقة بعد التراجع المبكر لدولة الاستقلال الوطني، وإثر الهزيمة الثقيلة لحرب 1967، ثم بداية التصدّعات العربية من حرب لبنان الأهلية، واتفاقية كامب ديفيد، ليأتي احتلال الكويت نهاية فعلية للمنظومة الإقليمية العربية، وانكشافها بالتدريج للخارج، حتى أصبحت الآن منطقةً بلا أي وزن أو قيمة حقيقية سوى ما تبقى من ثروتها. فيما عدا ذلك، أنهكتها الصراعات، وأصبحت تتجاذبها منافسة دول الإقليم، تركيا وإيران والدولة الاستيطانية إسرائيل. ومن الغريب أن يفرّ بعض العرب من الرمضاء بالنار، لكن يبدو أن هذا واقع الحال، منذ فقدت المنطقة مقوّمات إرادتها وبوصلة انتماءاتها، وبالتالي فشلت في ترتيب أولوياتها وتحديد خصومها وحلفائها.
تحكم المنطقة عقلية البداوة، وليس المقصود بالمنطقة هنا الخليج فقط بل المنطقة العربية ككل، وليس المقصود بالبداوة هنا تعريفها الاجتماعي والتاريخي، بل هي عقلية من لا يفكر إلى أبعد من يومه، لأنه يرتحل بخيمته من مجاورة بئر لمجاورة بئر أخرى. البدوي تحكم علاقته بالآخر خشية القريب، لأنه الخطر الماثل أمام عينيه، وهو لا يرى بعيداً، ولهذا يستقوي بالغريب الذي لا يعرفه، ولأنه يتصوّر هذا البعد سببا كافيا لأمان محيطه الضيق.
تساؤلات مفزعة تفرضها لحظة التطبيع والسقوط المدوي للمنطقة في براثن الارتهان للخارج
لهذا لجأت دول عربية، في لحظة انكشافها أمنياً، وخشيتها من الداخل أو من القريب للطرف البعيد، وهو العدو فعلياً، فجاءت الهرولة الخليجية إلى التطبيع، بعد أن رأت نفسها مكشوفة أمنياً بلا حماية أميركية أو عربية، بينما تتلقى صواريخ مصدرها اليمن من فصيلٍ تدعمه إيران الموجودة في الضفة الأخرى، وتزيد من تدخلاتها الخارجية المدمّرة لتحسين وضعها التفاوضي، وتغطية فشل نظامها داخلياً. ولكن من قال إن إسرائيل قد تكون حاميا؟ وكيف أصبح اليمن مصدر خطر أو عدوا؟ تساؤلات مفزعة تفرضها لحظة التطبيع والسقوط المدوي للمنطقة في براثن الارتهان للخارج، بكل ما يعنيه من متلازمات انقسام وتخلّف وديكتاتورية وانعدام كلي للمساواة.
ليس من باب المصادفة أن يتزامن التطبيع مع تدمير اليمن. المسألة مترابطة ولا تقبل الفصام، فالخليج مكشوفٌ شماله في دولةٍ عراقيةٍ فاشلة، ثم حالة اللادولة في جنوبه، بالتالي ينتابه هلع اللحظة غير المسبوقة بتحدّياتها ومخاوفها. لذا أيضاً ليس من الغرابة في شيء أن من يطبل للتطبيع، ويتخيل فيه مصالح ومزايا غير ممكنة هو ذاته من يتحمّس بشدة للتقليل من شأن اليمن وتاريخه والإساءة لشعبه، فهي البوصلة الأخلاقية والسياسية نفسها، لا تناقض فيها.