موريتانيا بعد الانتخابات النيابية والجهوية
أُسدل الستار على الانتخابات البلدية والجهوية والنيابية في موريتانيا، بعد شوطين (جولتين) شارك فيهما 25 حزباً مرخّصاً. وبلغت نسبة المشاركة نحو 72%، وهي نسبة مرتفعة في الدول ذات التقاليد الديمقراطية العتيقة، وقد كانت مشاركة الرجال مرتفعة، إذ وصلت إلى 77% مقابل 23% للنساء. ولعل أبرز ما ميّز هذه الانتخابات اكتساح حزب الإنصاف (الحاكم) العاصمة نواكشوط، إذ حصد 107 مقاعد، منها 80 مقعداً في الشوط الأول من أصل 176 مقعداً في البرلمان الموريتاني، أي نسبة 61%. ولم تستطع أحزاب المعارضة العريقة، مثل تكتل القوى الديمقراطية واتحاد قوى التقدّم والتحالف الشعبي التقدمي أن تحصل على من يمثّلها تحت قبة البرلمان.
ويتبيّن أن نسبة تمثيل الحزب الحاكم الذي تغيّر اسمه (الإنصاف بدل الاتحاد من أجل الجمهورية 2018) قد زادت ما بين اقتراعي 2018 و2023، منتقلة من 58% إلى 61% على التوالي، مقابل تراجع ملحوظ لتمثيل المعارضة داخل البرلمان من 25% إلى 16% في الفترة نفسها. وفي الوقت نفسه، برز حزبا "تواصل" ذو المرجعية الإسلامية والاتحاد من أجل الديمقراطية والتقدّم، محتلين المرتبة الثانية من حيث عدد النواب الذين بلغ عددهم عشرة، أي بنسبة 6% لكل منهما. وترأس الأخير الناهة بنت مكناس التي مثلت هذا الحزب في الحكومات المتعاقبة منذ أكثر من 20 سنة. وهناك 13 حزباً تقاسمت المقاعد الباقية (49 مقعداً). وحسب التوزيع العمري للنواب، فإن فئة 55 سنة فأكثر تمثل أغلبية البرلمان، بنسبة تقارب 40% منها، 10% تفوق أعمارهم 65 سنة. بينما تمثل الفئة العمرية 45 سنة وأقل نحو 29%، وهو ما يشي بصراع أجيال قوي يرجّح أن يطبع العمل البرلماني للسنوات الخمس المقبلة. كما تميّزت نتائج الانتخابات بما حصل أول مرة، وهو كثرة المغاضبين الذين لم يستطيعوا الترشّح من داخل الحزب الحاكم، فتركوه وترشحوا من خلال أحزاب أخرى، مغمورة في أغلبها، إلا أنهم نجحوا في دخول البرلمان، ومن المرجّح أن يظلوا موالين لبرنامج رئيس الجمهورية.
قد تُنذر التشكيلة الحالية للبرلمان بعدم انسجام بين أعضائه فيما بينهم وبين الأحزاب المكونة له، فاختلاف المشارب والمرجعيات وضعف التجربة في العمل السياسي عاملان حاضران جداً في البرلمان الحالي. ومن الراجح أن تواجه البرلمانيين بعض التحدّيات المتعلقة بأدائهم مهامهم المتمثلة في سن القوانين ومراجعتها والرقابة على العمل الحكومي ومتابعة الميزانية، زيادة على الجوانب المتعلقة بتثقيف المواطنين وتطوير الدبلوماسية البرلمانية الموازية.
قد تُنذر التشكيلة الحالية للبرلمان بعدم انسجام بين أعضائه فيما بينهم وبين الأحزاب المكونة له
ورغم ما شاب هذه الانتخابات من اختلالات، فهي اختبار عملي لجاهزية الدولة والمجتمع لتنظيم الانتخابات الرئاسية المقرّرة في السنة المقبلة (2024)، ولكنها أبرزت رجوع القبيلة معطى أساسياً في الحياة السياسية الموريتانية، سواء في الداخل أو الخارج، فهناك مكاتب حسمت التصويت فيها قبائل معينة، ضاربة عرض الحائط بالاعتبارات والتحالفات السياسية القائمة. وليس نادراً أن تسمع في المجالس الموريتانية أن القبيلة الفلانية حصلت على عدد كذا من النواب أو العمد أو المستشارين في المجالس الجهوية. كذلك راج استخدام المال السياسي الكثيف من كل الأطراف، فقد بلغ ثمن المقعد البرلماني أحياناً نحو 90 ألف دولار، كما تفاوت إنفاق الأحزاب حسب عدد رجال الأعمال المساندين له وقدرة المنتسبين المالية، أفراداً كانوا أم جماعات. فقد وصفت هذه الانتخابات بأنها الأسوأ في تاريخ البلد منذ حصوله على الاستقلال في 1960، إذ اتفقت الأطياف السياسية، موالاة ومعارضة، على انتشار الخروق فيها بشكل لافت. ومع أن أصواتاً كثيرة نادت بإعادتها، فإن كلفتها المادية أو السياسية يرجّح أن تمنع من ذلك، مع احتمال إعادة النظر في الحالات الموثقة بعد تقديمها إلى الجهات المختصّة. ولئن كان من صلاحيات الرئيس أن يحلّ البرلمان، فذلك يحتاج إلى مضي سنةٍ على انتخابه، فيبقى هذا الاحتمال ضعيفاً، نظراً إلى اقتراب الانتخابات الرئاسية التي ستحلّ في الأجل ذاته. في غالب الظن أن من نتائج الانتخابات الحالية إعادة تشكيل الخريطة السياسية على ضوء مراكز القوة الميدانية الحقيقية، وتشكيل حكومة إنجازات مهمّتها إعداد الانتخابات من خلال الحرص على تحقيق برنامج الرئيس الموسوم "بتعهداتي"، والذي امتاز بضعف المنجز منه، على الرغم من إعادة تشكيل الحكومة أكثر من مرّة وللهدف ذاته.
يبقى السؤال المحيّر، كيف سيدير الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني التناقضات بين مكوّنات الأغلبية الداعمة له ولغيره من الحكّام السابقين من جهة وبين هذه الأغلبية والأحزاب المعارضة التي وجدت نفسها خارج البرلمان، وقد كانت جزءاً من اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات المشرفة على العملية برمتها، والتي تشكلت على أساس محاصصة بين أحزاب الموالاة والمعارضة؟ هناك خوف قائم ومبرّر من أن تظل الأحزاب المعارضة تلعب دور المشرعن لما يقوم به النظام الحالي، كما كان يحدُث في الماضي، حيث الأغلبية الساحقة للحزب الحاكم والأقلية الضعيفة لأحزاب المعارضة. ما يطرح سؤالاً بشأن جدوى المتابعة في مسار كهذا تميز بتراجع تمثيل المعارضة وضعف أدائها وتآكل شعبيتها.