من يُؤتمن على السودان؟
حين أراد رئيس المجلس العسكري الانتقالي في السودان، عبد الفتاح البرهان، تبرير انقلابه على المكوّن المدني، قبل حوالي سنتين، وزجّه رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك، في السجن، قال يومها إن الانقلاب جاء ردّاً على تناحر أحزاب المكون المدني وصراعاتهم، والذين اكتشف أنهم لا يمكن أن يُؤتمنوا على السودان، مضيفاً أن الجيش السوداني وحده الذي يمكن أن يكون المؤتَمن على البلاد. وقد وقع الانقلاب يومها قبل أيامٍ من التحضير لتنفيذ الاتفاق بين مكونيْ السلطة، وكان ينصّ على تسليمها للمكون المدني بعد سنتين من قيادة العسكر لها. استدعت الذاكرة هذا التصريح بعد مرور شهرين على تفجّر الصراع الدائر حالياً بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، والذي أدخل البلاد في المجهول، ووضعها على شفا حربٍ أهليةٍ يدفع سلوك العسكر ليس نحو حصولها فحسب، بل وإطالتها بسبب صراعاتهم المسلّحة.
وقبل انقلابه على المكون المدني وحلّه مجلس السيادة الانتقالي ومجلس الوزراء وإيقافه العمل بالوثيقة الدستورية، في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، كان البرهان قد تحدّث عن وصاية الجيش على السودان، مؤكّداً بذلك على الفكر الاستئثاري لدى المكوّن العسكري، ليأتي الانقلاب، ويؤكّد أن لا انتقال إلى الحكم المدني، ولا انتقال آخر سوى ما يقرّره العسكر. غير أن السخرية سرعان ما جاءت من خلال كلامه في خطاب الانقلاب، يوم تحدَّث عن الصراع بين السياسيين، وهو الأمر الذي دفعه إلى تحييدهم. وقال البرهان يومها إنه بسبب: "تشاكس بعض القوى السياسية وتكالبها نحو السلطة والاصطفاف الجهوي والعنصري والتحريض على الفوضى والعنف، من دون اهتمامٍ يُذكر بالمهدّدات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية التي أطبقت على كل مناحي الحياة ومفاصل الدولة، كان لزاماً علينا في القوات المسلحة والدعم السريع والأجهزة الأمنية الأخرى أن نستشعر الخطر، ونتّخذ الخطوات التي تحفظ مسار ثورة ديسمبر".
هؤلاء الذين اخترقت رصاصات الجيش والدعم السريع صدورهم، لم يردّوا على العسكر برصاصة واحدة، حفاظا على أمن البلاد
لا ندري إن كان البرهان يتذكّر هذا الكلام الذي نطق به عن المهدّدات الأمنية التي لم يتسبب بها المدنيون وسياسيّوهم، أو إن كان قد قرأ لافتات المتظاهرين السلميين الذين خرجوا احتجاجاً على الانقلاب: "لا تحاربوا النظام بالسلاح فهو يمتلك منه الكثير، حاربوه بالأفكار فهو لا يمتلك منها شيئاً". هؤلاء الذين اخترقت رصاصات الجيش والدعم السريع صدورهم، لم يردّوا على العسكر برصاصة واحدة، حفاظا على أمن البلاد. كما أنه تناسى أن السياسيين، مهما تصارعوا أو تشاكسوا، لن يؤدّي صراعُهم إلى المآسي التي أدّى إليها صراع العسكر.
الآن، وبعد مضي أكثر من شهرين على اندلاع الصراع بين قائدي الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وبعد الدمار الكبير في العاصمة والمدن الأخرى، وبعد التسبّب في مقتل الآلاف ونزوح الملايين، وغياب أي نيةٍ لدى الطرفين لإنهاء الصراع، تبيّن أن العسكر لا يمكن أن يُؤتمنوا على السودان وعلى حياة أبناء الشعب السوداني. بل تبيّن أن العسكر لا يهتمون لحياة أبناء الشعب وأرزاقهم، حين يكون الهدف تحقيق غلبة لقوات أحدهما على الآخر، في أي موقعٍ من المواقع التي تجري فيها المعارك، وفي ظلّ صراعهما على السلطة. وبات أكثر وضوحاً أن هذين الفريقين اللذين تحالفا على غلبة المكوّن المدني والانقلاب عليه من أجل ضمان سيطرتهما الدائمة على الحكم، وجعل الحكم عسكرياً إلى أجلٍ غير مسمّى، كانا في الحقيقة صديقين لدوديْن، ولم يقوِّ تحالفهما سوى إرادتهما قهر المكون المدني والانقضاض على ثورة الشعب السوداني. وأكّدت المعارك أنهما لا يتوانيان عن استخدام أيٍّ من أشكال القوة، وأي نوعٍ من الأسلحة من أجل إقصاء أحدهما الآخر، من دون أي اكتراث بالضحايا أو بالدمار الذي يتسبب به هذا النزاع.
لدى البرهان رغبة أعظم من رغبة حميدتي في السلطة، ويريده بيدَقاً لا أكثر، يساعده على الاحتفاظ بها
ربما يكون كلام قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، في تصريح لقناة الجزيرة مباشر في اليوم الأول للمعارك، في 15 أبريل/ نيسان الماضي: "هذه معركة لا يمكن تحديد وقت الانتهاء منها"، خير دليل على أنه ليس لدى العسكر أي اعتبارٍ لأهل البلاد وأمنهم وحياتهم، فبدلاً من طمأنة الناس إلى وجود نيّة في إيقاف القتال لتجنيبهم المآسي، وإبلاغهم أن ما حصل ليس سوى جولة قام بها متفلتون تنتهي المعارك بعد ضبطهم وإقصائهم، كان خطابه من العنجهية والتعالي على الشعب إلى درجة أنه تقصد تحطيم آمال كهذه. ولكن كيف لمن أصبحت قواته واستثماراته دولةً داخل الدولة أن يكون حريصاً على الشعب والبلاد، خصوصاً عندما استشعر نيّة في تحجيم قواته عبر دمجها في الجيش؟
من جهة أخرى، كان واضحاً أن انتظار البرهان أكثر من شهر من أجل اتخاذ قرار إعفاء حميدتي من منصبه نائباً له، في 19 الشهر الماضي (مايو/ أيار)، دليل ربما على أن البرهان كان ينتظر توقف المعارك وعودة حميدتي إلى رشده من أجل ضمان استمراره حليفاً له في وجه المكوّن المدني، ومانعاً قوياً لانتقال السلطة للمدنيين نظراً إلى شراسته ودمويته التي اكتسبها من معاركه وجرائمه في إقليم دارفور. غير أن حميدتي الذي تحدوه رغبة عارمة في السلطة، يعرف أن هذه المعادلة لن تكون في صالح تنفيذ رغبته، لأن لدى البرهان رغبة أعظم من رغبة حميدتي في السلطة، ويريده بيدَقاً لا أكثر، يساعده على الاحتفاظ بها.
يعود بنا هذا المشهد المتفجّر في السودان، ومشاهد الصراع المشابهة في دولٍ عربية أخرى، والأدوار التي تضطلع بها الجيوش في دولٍ عربية كثيرة، إلى السؤال الذي يُطرح دائماً عن الجيوش العربية وجدواها، وعن وظيفتها الحقيقية وعن ولاءاتها؛ للشعوب أم للحكام؟ تحمي حدود البلاد، أم تدعِّم حصون الحاكم في وجه شعبه؟ لقد تضخّمت الجيوش العربية في العقود الأخيرة وتنوّعت نشاطاتها وتوسّعت استثماراتها المالية والتجارية والاقتصادية، حتى باتت بعض الدول العربية تتبع لها، لا تتبع هي لهذه الدول. وفي الملمّات تراها تتبع الحاكم، وتتهاوى عند ضربات القوى الخارجية، أما إذا ما لمحت لدى أبناء الشعب ملامح احتجاج ورغبة في الانعتاق، تراها وقد اكتست لبوساً غير الذي تكتسيه حين يستهدفها الأعداء.