من يشكّل النظام العالمي الجديد؟

30 يوليو 2023
+ الخط -

مع انهيار الاتحاد السوفييتي، انحل النظام العالمي الذي قام عقب الحرب العالمية الثانية، وتبعثرت الدول الشيوعية، ومن حينها لم تفلح الأمم المتحدة في ابتكار نظام جديد للعالم، فنظامها الداخلي مصمّم على قياس الدول المنتصرة في الحرب، وورثت روسيا النصيب السوفييتي كله في مجلس الأمن، ما جعل هندسة نظام جديد أمراً شديد الصعوبة.. حاولت الولايات المتحدة بعد أحداث "11 سبتمبر" (2001)، والهجوم على أهداف سيادية أميركية، أن تتصدّر المشهد، ولكن حروبها في أفغانستان والعراق فشلت، رغم اقتلاعها النظام في كلا البلدين، من دون أن تفلح في زرع أنظمة شبه ديمقراطية فيها، واستغلّت الزمن في التقدّم الهادئ الرصين، ممسكة العصا من المنتصف في سلوكها الاقتصادي والسياسي، من دون أن تتمكّن من التفوّق وحدها في الهيمنة، ومن دون أن تفسح المجال لشكلٍ جديدٍ من أشكال الانتظام العالمي. ووجدت روسيا التي تبكي أمجاد الماضي موطئ قدم لها في سورية، ونجحت في شقّ طريقٍ يوصلها إلى الضفاف الشرقية للمتوسط، وحلمت في اجتياح أوكرانيا لسد الطريق أمام التهديد الغربي وحلف الناتو الذي بات يطرُق على أبوابها.

لم تكن العقود الثلاثة التي مضت على تخلخل النظام العالمي الحالي كافية لاختمار نظام عالمي آخر. وكانت المنظومة الدولية تحتاج إلى حربٍ تنتهي، كي تجد معالمها الجديدة، كما بلورت شكلها سابقاً بعد نهاية الحرب العالمية.

مع تطاول مدة الحرب الروسية في أوكرانيا، يجد الغرب بقيادة أميركا نفسَه في حالة تراص متزايد، وكأن أمد الحرب الطويل يخلق روابط قوية بين مختلف دول المنظومة الغربية، التي شعرت بأنها مهدّدة فجأة من دولة كبيرة على مقربة منها، وقد شهدت بعض الدول الأوروبية انتقالاً حاسماً من حالة التحفّظ، والتحفّظ الشديد، والحذر من المواقف المتشدّدة تجاه روسيا، إلى حالة من الإدانة الكاملة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والانخراط طواعية خلف الحلف الذي تقوده الولايات المتحدة ضد روسيا، ففي بداية الحرب، تخوّفت ألمانيا على إمدادات الغاز والطاقة التي تأتي من روسيا فتمهلت قليلاً، قبل أن تحوّل موقفها إلى حالة العداء التام، إلى درجة تموين الجيش الأوكراني بالدبابات لدعم موقف أوكرانيا العسكري. وشهد الموقف الفرنسي حالة مشابهة وانتقالاً من التريّث إلى الوقوف الكامل في وجه بوتين، وكانت الذروة في الموقف الفنلندي الذي حافظ على حالة الحياد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى لحظة الغزو الروسي أوكرانيا، فوجدنا ردة فعل فنلندا هي الاستماتة للدخول في حلف الأطلسي. وكان موقف السويد مشابهاً، وحالت دون انخراطها حالة خاصة، يمكن تجاوزها تمهيداً لدخولها بصفة عضو كامل في الحلف.

يمكن للمنظومة الغربية إذا حافظت على حالة الاكتناز الحالية أن تساهم في تشكيل نظام عالمي جديد، ويكون قطبُه الآخر الصين. لكن، يجب، في البداية، كسب الحرب على الجبهة الأوكرانية، وخروج بوتين منها بهزيمة لا تقبل الشك، وقد تكون الولايات المتّحدة تخطّط بالفعل للقيام بهذه الخطوة، وتضغط بكامل ما تستطيع من قوة ونفوذ في دعم أوكرانيا، وتحفّز حلفاءها على المساهمة كلّ بقسطٍ كبير في دعم هذا المجهود لحصد تلك النتيجة المرجوّة، فلم تعد الولايات المتحدة مهتمة حقاً بإيقاف الحرب، والمحافظة على حالة الهدوء النسبي، بل أصبح اهتمامها منصبّاً على كسب تلك الحرب، وجهودها واضحة في دعم الجيش الأوكراني ومدّه بأسلحة حديثة متنوعة، وكذلك ما بذلته في سبيل توسيع حلف الأطلسي ينصبّ لصالح الرغبة في النصر والخروج من الحرب بتحالف جديد، يؤلف كتلة بوزن سياسي وعسكري راجح لقيادة المرحلة المقبلة، وعلى الولايات المتحدة قبل حسم موضوع النصر البحث عن حلّ للأسلحة النووية التي يمتلكها بوتين، وقد يمتلك من الجنون ما يدفعه إلى استخدامها بشكل جزئي. وقبل حلّ مسألة النووي، على الولايات المتحدة أن تُبقي الصين هادئة، وتعطيها ما يجعلها تشكّل مجالاً مريحاً للتحرّك.