من يحكم الإنترنت؟
بينما كانت الأسئلة المعقدة المرتبطة بمنصات التواصل الاجتماعي تُطرح على خلفية الانتخابات الأميركية، كانت الأسئلة نفسها تُطرح في معركة مختلفة تماما. بطل القصة هو موقع "بورن هاب" الأشهر عالميا بالمجال الإباحي، حيث تلقى 42 مليار زيارة عام 2019، وأحرز أرباحا بنحو نصف مليار دولار. خلال السنوات الماضية، واجه الموقع حراكا متصاعداً من حملاتٍ تعمل على توثيق انتهاكاتٍ قانونية، كمقاطع فيديو يظهر بها قُصّر، أو اعتداء جنسي.
دأبت الشركة الكندية العملاقة المالكة على نفي التهم، وفي الوقت نفسه، التأكيد على تعاونها مع المسارات القانونية، كما حدث حين حذفت عام 2019 قناة، تم اتهامها ببلاغ قضائي بخداع فتيات بإيهامهن أن المقاطع ليست للنشر العام. وبلغت ذروة الحملة أخيرا بخطاب وجهته منظمات نسوية وحقوقية لمؤسسات الخدمات المالية الكبرى، وتزامن ذلك مع كتابة الصحافي الأميركي البارز، والحاصل على جائزتي بوليتزر، نيكولاس كريستوف، عن القضية في صحيفة نيويورك تايمز. هنا صدر حكم "الإعدام السيبراني"! تباعا أوقفت شركات "فيزا كارد" و"ماستر كارد" و"بي بال" خدمات الدفع. هذا يعني عمليا أن الموقع سيشهر إفلاسه ويُغلق.
تراجعت الشركة بشكل تام. في منتصف ديسمبر/ كانون الأول، قرّرت حذف أو تعليق أي مقطع مصور لم يتم توثيق واعتماد شخصية من قام برفعه وانخفض محتوى الموقع من 13 مليون فيديو إلى أربعة ملايين فقط!
بعد أيام قليلة وصلنا إلى عاصفة حذف حسابات ترامب. وبالمثل، تم ذلك بدون حكم قضائي، أو قاعدة ثابتة. وترامب يستحق المحاكمة، لا حذف الحساب فقط، لكن هذا لا ينفي الأسئلة التأسيسية..
أولها السؤال الكلاسيكي بشأن حدود حرية التعبير. قانونا، لا تندرج في هذا التعريف جرائم مثل "التحريض على العنف" وخطابات الكراهية والعنصرية، فضلا عن "السب والقذف". ولكن الأمور تبقى جدلية، يقول أنصار ترامب إنه لم يدعُ إلى اقتحام الكونغرس. من يحدّد تعريف الانتهاك وتطبيقه؟ يأخذنا هذا إلى سؤال ثان: هل يحمل المديرون التنفيذيون للشركات سلطات مطلقة؟
قالت المستشارة الألمانية ميركل: "من الممكن التدخل في حرية التعبير، لكن وفق الحدود التي وضعها المشرّع، وليس بقرار من إدارة شركة". لكن في الواقع كان حكم الشركات أسرع وأشد وقعا من حكم أي جهةٍ قضائية. ومن اللافت هنا أن البنية القضائية تفشل مرة أخرى في مواكبة تطوّرات متسارعة، كما حدث في فشلها التاريخي في قضايا الاعتداء الجنسي. ولكن ماذا لو قرّرت شركات الإنترنت استخدام هذه السلطات الهائلة في حصار موقع آخر، أو شخصية سياسية أخرى؟ ماذا لو قرّر "فيسبوك" حجب كل الأخبار الداعمة أو المعارضة لقضية ما؟
يأتي السؤال الثالث من زاوية مختلفة: ما هي حدود الخاص والعام؟ حيث أسكن في إنكلترا، يمكن للمواطن الاختيار بين شركات خاصة لتوفير المياة أو الكهرباء، كما أن خطوط المترو والباص تتبع شركة خاصة. ولكن هذه تظل "خدمات عامة"، للحكومة دور كبير في تنظيمها، والتدخل المباشر في الإدارة أو التمويل، كما حدث أخيرا في أزمة كورونا. في 2016 أقرّ مجلس حقوق الإنسان للأمم المتحدة قرارا باعتبار الوصول إلى الإنترنت هو أحد "حقوق الإنسان".
يتلو ذلك سؤال رابع: هل هذه المنصّات مجرد وسيط محايد والمسؤولية فقط على الناشرين؟ أم أن مقدّم الخدمة مسؤول مثل مستخدمها؟ ينص القانون الأميركي أن المسؤول هو ناشرو المحتوى، وليس منصات التواصل، لكن في الوقت نفسه بموجب الالتزامات القانونية تشن المنصات حرباً لحذف حسابات التنظيمات المصنفة إرهابية، وفي مقدمتها "داعش".
وفي النهاية: هل "التريند" يصنع السياسة أم السياسة تصنع "التريند"؟ بمعنى هل أدّت المنصات فعلا إلى انتخاب ترامب وصعود اليمين في العالم؟ أم ثمّة أسباب اقتصادية وسياسية وتاريخية عميقة؟ لو أنتج اليساريون في البرازيل قنوات "يوتيوب" أفضل من نظريتها اليمينية هل سيسقط بولسارنو؟
الخلاصة أنه كما غيّر يوم 6 يناير/ كانون الثاني 2021 التاريخ بعد اقتحام الكابيتول، فإن يوم العاشر من يناير، يوم حجب "تويتر" حساب ترامب، تاريخي، لن يعود الإنترنت بعده كما كان قبله.