من وعد بلفور إلى وعد ساويرس
حسناً، يريد السيد نجيب ساويرس أن يمنح السوريين وطناً قومياً في أوروبا، على الطريقة التي حصل بها الصهاينة على وعد بوطن قومي على أشلائنا، في فلسطين المحتلة، قبل نحو قرن.
لم يقل لنا السيد نجيب ساويرس، ماذا بعد أن يشتري جزيرتين في أوروبا، من أجل اللاجئين السوريين، وما المراد من الفكرة ذاتها، هل يريد توطينهم بشكل دائم، في إطار المشروع الأممي لتفريغ سورية من سكانها، أم يبحث عن تسكينهم بشكل مؤقت، حتى توضع سيناريوهات للمستقبل؟
تبدو أوروبا متجهّمة في وجه اللاجئين السوريين، بعد مرور أسابيع على اندلاع موجة الهجرة الجماعية للسوريين، عبر المتوسط، وتشتعل القارة العجوز بالجدل والعراك حول الحصص والأعداد، والطاقة الاستيعابية لكل دولة لاستقبال عدد من طالبي اللجوء.
هي فرصة لكي تتذكر أوروبا جنايتها بحق فلسطين، أو جريمتها، جريمة بريطانيا تحديداً، بتعبير الكاتب البريطاني الراحل، جوزيف جيفريز، صاحب أكبر وأخطر وأدق وثيقة عن جريمة إنشاء الكيان الصهيوني على أنقاض فلسطين، بكتابه الضخم "فلسطين إليكم الحقيقة"، الذي نشر في العام 1939، وترجمه إلى العربية أحمد خليل الحاج، قبل عقود.
يبدو العالم، في هذه اللحظة، مستعداً، مرة أخرى، لمكافأة النازية على حساب الجنس العربي. في الأولى، كافأت أوروبا نفسها، عقب الحديث عن محارق اليهود في أفران النازي في ألمانيا، بأن تخلّصت من هذا الوجود المزعج، من خلال الضلوع في مؤامرة إحلال اليهود في أرض فلسطين، على حساب سكانها العرب الذين تم تقتيلهم وتهجيرهم إلى خارج الديار.
وفي هذه المرة أيضاً، تكافئ أوروبا الحكم النازي في سورية على جرائمه بحق شعبه، بأن تحوّله إلى موجات من طالبي اللجوء إليها، غير أنها، في هذه المرة، تتحدث عن تذويبهم في مجتمعاتها، لا عن منحهم وطناً قومياً بديلاً، بالطريقة ذاتها التي منح فيها من لا يملك (البريطاني بلفور) من لا يستحق (يهود أوروبا) وطناً في فلسطين العربية.
غير أن السيد نجيب ساويرس، أحد المموّلين الكبار لهولوكست 30 يونيو/ حزيران 2013 في مصر، يقرر، هذه المرة، أن يرتدي زي السيد "بلفور"، ويعلن استعداده منح السوريين جزيرتين في جنوب أوروبا.
السؤال هنا: إذا كان المجتمع الدولي إنسانياً وحنوناً إلى هذه الدرجة، فلماذا لا يفكر في منح الشعب السوري المشرّد وطناً قومياً في سورية؟
لماذا يختار الأوروبيون الأصعب، استقبال لاجئين من ثقافات وقيم مختلفة، لدمجهم في مجتمعاتهم، على ما في ذلك من صعوبات في التواصل اللغوي، لإراحة الدكتاتور النازي منهم ومن مشكلاتهم، ومطالبهم في حياة محترمة؟
كان المتصوّر، بعد أن شاهد العالم مأساة الهروب الجماعي من المحرقة السورية، أن تستيقظ الضمائر، وتتحرك الدماء في العروق، ويبدأ عمل جاد وفعلي لحل المشكلة من جذورها، والتي لخّصتها الصحافة الألمانية بجملة شديدة البساطة، وجّهتها إلى أنجيلا ميركل، بأن شخصاً واحداً فقط تستقبله أوروبا لاجئاً، يمكن أن يحل العقدة، هو بشار الأسد، بدلاً من هذا العذاب الذي يقاسيه السوريون على الحدود بين الدول الأوروبية؟
السؤال نفسه يمكن توجيهه للسيد نجيب ساويرس: بدلاً من إنفاق أموالك في شراء جزر للسوريين في أوروبا، لماذا لا تتوقف عن دعمك السخي للاستبداد، في مصر، والذي بدوره يشكل الحاضنة الأساسية، وأحد مصادر تسليح ماكينة الإبادة الجماعية التي يمارسها النظام السوري ضد شعبه؟
ويمكن أن يطرح السؤال كذلك على نبيل العربي، الأمين العام لجامعة الدول العربية، والذي يتألق في أحدث تصريحاته عن المأساة السورية، بالقول إن مجلس الأمن تخلّى عن مسؤولياته الدولية في ما يتعلق بالأزمة السورية؟
السؤال جيد، لكنه يحيل إلى سؤال آخر: وماذا فعلت جامعة الدول العربية في مسؤولياتها القومية، سواء على صعيد سورية أو مؤامرة تهويد المسجد الأقصى؟
يعلم المراقب للأوضاع العربية أن أحداً لم يسهم في ذبح الثورة السورية في مهدها كما فعلت الجامعة العربية، حين وفّرت الغطاء تلو الآخر لمجازر النظام ضد الشعب، فماذا يريد نبيل العربي من مجلس الأمن؟
أغلب الظن أنه يريد مزيداً من المكافآت الأممية لبشار الأسد على مجازره اليومية بحق المدنيين، وكأنه لا يكفيه أنه كلما تفاقمت كارثة النزوح من سورية، زادت العطايا الأوروبية والأميركية له، ناهيك عن الاحتضان التام من روسيا، إلى الحد الذي لم يعد يخفي فيه أحد أن القوات الروسية تخوض المعركة على الأرض، بجانب جيش بشار الأسد.
قرّر العالم، في لحظة انسلاخ كامل من الضمير ومن القيم الإنسانية، أن يكافئ "النازيين" على محارقهم.
في القديم، كافأت أوروبا نازيتها على حساب العرب، والآن يكافئون النازي العربي، على حساب العرب أيضاً.