من مصر إلى تونس .. غرام الاستبداد بالفساد
أول ما يبحث عنه الاستبداد فور حضوره هو الفساد، يسعى إليه حثيثًا ويتودّد إليه عارضًا صفقة: الأموال مقابل التصالح والحصول على شهادات صلاحية اجتماعية.
هذا منطق الثورات المضادة والانقلابات دائمًا، حدث في مصر ويحدث الآن في تونس مع انقلاب قيس سعيّد على كل شيء: الثورة والدستور والبرلمان والقضاء .. والأخلاق أيضًا.
استدعى قيس سعيّد في مكتبه رئيس اتحاد الصناعة والتجارة، وجلس يقرأ عليه من ورقة مكتوبة سلفًا بروتوكولات الانقلابيين للتصالح مع الفاسدين، بوصف هذا الصلح مع الفساد أحد بنود "الواجب المقدّس" الذي تم تنفيذ الانقلاب من أجله.
أمام عدسات التصوير التلفزيوني، أمسك قيس سعيّد بمجلد ضخم يحوي أسماء الفاسدين وأحجام سرقاتهم من أموال الشعب، من واقع ما رصدته ووثقته الثورة التونسية في أيامها الأولى، ليعلن أنه يريد تصالحًا مع الفاسدين والنهابين، ولا يفكر في التنكيل بأحد منهم، فمن دفع نجا من العقاب، وصار وطنيًا مخلصًا ومواطنًا شريفًا.
خرّيج الحقوق، المنتحل صفة أستاذ القانون، والذي نصّب نفسه نائبًا عامًا بعد إطاحة نائب عام الشعب، يعلن عن صفقة التصالح مع منتهكي القانون، ملتمسًا منهم في أدبٍ جمّ أن يقبلوا دعوته إلى الاندماج في المجتمع، في اللحظة التي يمارس أقصى درجات الإقصاء والاستئصال ضد المخالفين له سياسيًا، والمعترضين على مسلكه الاستبدادي، المدعوم من معسكر الثورات المضادّة، ويحرّض الشعب على معارضيه، باعتبارهم أعداء الوطن.
هذا الغزل الصريح، غير العفيف، بين الطغيان والفساد، شهدته مصر عقب انقلاب 2013، إذ وفر الانقلاب مظلة حماية ورعاية وشراكة لكل الفاسدين، المعلوم فسادهم للناس كافة، والثابت إجرامهم بأحكام القضاء، ورأينا ورأى الجميع كيف انهمرت قرارات العفو الرئاسي كالمطر فوق الفاسدين والمجرمين، في الوقت الذي انفتحت فيه أبواب جحيم التنكيل القضائي بالمعارضين الذين سيقوا إلى الإعدام بالمئات، وحشروا في الزنازين المقبضة بعشرات الآلاف.
وجدنا هشام طلعت مصطفى، المستحوذ على ملايين الأمتار من أراضي الدولة، بقوة التحالف مع الفساد، والقاتل بحكمٍ باتّ من محكمة النقض المصرية في جريمة قتل الفنانة، سوزان تميم. وجدناه حرًا طليقًا، ووجهًا مفروضًا، من جديد، على شاشات التلفزة والصفحات الأولى للجرائد، بموجب قرارٍ من رئيس سلطة الاستبداد والانقلاب شخصيًا.
القاتل، بحكم النقض، عاد مواطنًا شريفًا ورجل أعمال وطنيًا، بقوة رأس المال الباطشة، ليتحدث إلى جموع الشعب عن العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، وفقًا لمفهوم عبد الفتاح السيسي، مخليًا مكانه في ظلام السجن البهيم، للرجل المسؤول عن محاربة الفساد في مصر، رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات المستشار، هشام جنينة.
هشام جنينة في السجن الآن، لأنه قاوم الفساد وتصدّى لاستشرائه، بينما هشام طلعت يصول ويجول في ربوع مصر، بمشاريعه العملاقة لإسكان الأثرياء وأصحاب النفوذ وملاك السلطة والجبروت. ومثله هناك عديد المجرمين، بموجب أحكام القضاء، يمرحون بمنتهى الحرية، كما هو الحال مع أحد رموز البلطجة والإجرام، وفقًا لنصوص أحكام القضاء النهائية، صبري نخنوخ. وفي مقابل هؤلاء عشرات، بل مئات، من رجال الأعمال الحقيقيين، ممن يُشهد لهم الجميع بالنزاهة ونظافة اليد وطهارة الثروة، تم زجّهم في السجون لأنهم لم يرضخوا لابتزاز الطغيان وإرهاب الاستبداد، فتم الاستيلاء على شركاتهم وأموالهم وممتلكاتهم.
هذا الغرام المتبادل بين الاستبداد والفساد في مصر دفع المخرج محمد العدل، وهو أحد نجوم دراما الانقلاب الأشداء، للتصريح قبل سنوات إن "كل الفاسدين مع السيسي، وإن كان ليس كل الذين مع السيسي فاسدين"، وهي مقولة دقيقة، صنفت في حينها على أنها "شهادة شاهد من أهلها"، تعبّر عن واقع جديد بدأ باختراع مسمّى "المواطنين الشرفاء" ليصبح الفساد في مصر محمياً بقوة السلطة، وسيداً ومدللاً، تُفتح له الأبواب والنوافذ، يدخل ويخرج بكلّ حرية، ما دام يلتزم بطقوس "تحيا مصر" صندوقاً كبيراً لإخفاء الجرائم والسرقات، ليكون الانقلاب فرصة العمر للفاسدين، يفدون إليه من فجٍّ عميق، للمساهمة بفسادهم في خدمة وطن مسروق.
وبينما الفساد يرعى ويتوحش ويستشرس، متمتعاً بحماية الاستبداد، لا بأس بين الحين والآخر من خروج راعي الاستبداد والفساد معًا بتصريحاتٍ عنتريةٍ يعلن فيها الضرب بيد من حديد على أصحاب الثروات من أجل عيون الشعب، بينما الحقيقة الساطعة تقول إنه لا يتصوّر، عقلًا ومنطقًا، أن الشخص الذي سجن، ظلمًا وافتراءً وتنكيلًا، رئيس الجهاز المعني بمحاربة الفساد، يمكن أن يكون صادقًا في عدائه الفساد.
من مصر إلى تونس، يتصالح المستبدّون مع الفساد، بالقدر ذاته الذي يتخاصمون به مع القوى الوطنية الحقيقية... وكله باسم الشعب!