من عروبة عبد الناصر إلى عروبة زيّاش
أعادت انتصارات المنتخبات العربية في كأس العالم، وفي مقدمها إنجاز المنتخب المغربي ببلوغ نصف النهائي (إلى حين كتابة تلك المقالة التي ترجو أن تتعدّل لاحقاً ببلوغ المغرب النهائي والحصول على البطولة)، لأول مرة في تاريخ منتخب عربي وأفريقي، مظاهر الحس العربي المشترك لدى الشعوب العربية، وهو الحسّ الذي نراه ليس فحسب في الأحداث الرياضية الكبرى، بل كذلك في الموقف العربي الشعبي تجاه إسرائيل الذي لا يزيده اتجاه أنظمة عربية حاكمة نحو التطبيع إلا تجذّراً، كما رأيناه في الانتفاضات العربية عام 2011، عندما غنّى المصري حمزة نمرة مثلاً للثورة التونسية بكلمات وألحان تونسية، قبل حتى أن تبدأ الانتفاضة المصرية، معيداً ذكريات غناء عدلي فخري وزين العابدين فؤاد "على بوّابات بيروت" في أثناء معركة بيروت المجيدة صيف عام 1982، من دون إغفال أنّ فخري وفؤاد كانا بالفعل يغنيان على بوابات بيروت آنذاك.
لا يتناسب الاحتفاء العربي الشعبي المشترك والعفوي مع النفور الذي يبديه عربٌ كثيرون اليوم كذلك تجاه الأيديولوجيا القومية العربية، إن في سخرية مصريين أحياناً من جمال عبد الناصر أم في سخط السوريين والعراقيين على حزب البعث وأيامه (أدرك عدم دقة التعميم، لكن ينبغي أن يدرك من يزعجه التعميم طبيعته المجازية المرسلة، فالمصريون الساخرون هم بعض المصريين بالتأكيد، لا كلهم)، بحيث أصبحت القومية العربية كأيديولوجيا، أي كمذهب سياسي، أشبه بجثة هامدة لا إكرام ممكناً لها سوى دفنها، وهو ما احتفى به مثقفون عرب مدافعون عن أيديولوجيات وطنية قُطرية معادية للعروبة، قبل أن تصدمهم بالطبع الردّة الجماهيرية (من منظورهم بالطبع). فهل تعاني الشعوب العربية (تعميم آخر يجب تفهم مجازيته المرسلة) فصاماً بين عواطفها وأفكارها أو بين عواطفها وعواطفها نفسها؟ أم أن هذا الاحتفاء ليس سوى هزل غوغائي غير ذي دلالة؟
تنبع المفارقة من غياب التمييز الضروري بين القومية، بما هي انتماء ثقافي يتشكل تاريخياً بفعل التشارك في اللغة والثقافة والجغرافيا والتاريخ، وما يترتب على ذلك من تشارك في مصالح ومطامح سياسية واقتصادية، والأيديولوجيا القومية، بما هي مذهب سياسي يحاول تحويل ذلك الانتماء إلى مقتضيات سياسية ذروتها الدولة القومية الموحدة، وهو التمييز الذي أشار إليه عزمي بشارة في تعليقه على كتاب "الجماعات المتخيّلة" لبندكت أندرسون، حين ينتقد مقولة الريادة الكريولوية (الكريوليون هم الشعوب التي تشكّلت من مزيج من الأعراق في المستعمرات، خصوصاً أميركا اللاتينية، وشكّلت انتماء قومياً مشتركاً بعد ذلك) والأوروبية الشرقية (البولندية على وجه الخصوص)، ثم إيطاليا وألمانيا بالتأكيد، في ظهور الأيديولوجيات القومية، حيث يرى بشارة أنّ إنكلترا وفرنسا وهولندا وغيرها لم تغب عنها القومية، وإنما لعبت الرأسمالية المبكرة فيها عبر السوق الموحد دور الحركة القومية في تأسيس الدولة والوطنية المرتبطة بها.
ظلت العروبة تعبيراً سياسياً عن أساس ثقافي ومادي مشترك، لا يمكن أن يهرب منه حتى أولئك الذين حاولوا القضاء عليه
يشبه ذلك التمييز الضروري كذلك بين الإسلام والحركة الإسلامية أو الإسلام السياسي أو الإسلاموية، فالإسلام، الدين، حتى بآثاره السياسية عبر دوره الثقافي أو الشريعي أو الأممي، ليس هو الإسلام السياسي، أي ذلك المذهب الذي يعمل على تحقيق مقتضيات سياسية يراها لهذا الدين، وذروتها كذلك بالطبع الدولة الدينية الموحدة. الإسلام السياسي بهذا المعنى ليس سوى ظاهرة تاريخية يمكن نقدها أو رفضها وحتى انتهاء صلاحيتها بالكلية، من دون أن يعني ذلك موت الدين بوصفه مكوناً ثقافياً أساسياً يلعب أدواراً اجتماعية وسياسية لا يمكن تجاهلها، بل ربما يمثل استبعاد الدين من الصراع الأيديولوجي السياسي حماية للدين، بوضعه أرضية ثقافية مشتركة، لا يتنكّر لها العلماني نفسه، ويمكن لمعتنقه أن يختار بين أيديولوجيات سياسية متنوعة من دون أن يجد تناقضاً بينها وبين الدين، بما هما معبران عن مستويين مختلفين من الخيارات والأفكار.
لقد ظلت العروبة تعبيراً سياسياً عن أساس ثقافي ومادي مشترك، لا يمكن أن يهرب منه حتى أولئك الذين حاولوا القضاء عليه، فبينما كانت أنظمة حاكمة عربية تؤسّس سلطتها على التملص من العروبة والاندفاع الثقافي والسياسي نحو الانكفاء القُطري وتشكيل وطنياتٍ معاديةٍ للعروبة، رغبة في التخلص من إرث الحركة القومية العربية الاشتراكي والمعادي للإمبريالية، ظلت تلك الأنظمة نفسها جزءاً من لعبة التكامل العربي السلبي القائم على الحصول على فتات الأرباح النفطية مقابل بعض الخدمات الأمنية والسياسية، وقد انتهت مأساة التحلّل العربي تلك بالمهزلة، عندما رأينا الذين بنوا شهرتهم على عنصرية مقيتة تجاه الشعوب الخليجية ومرادفة العروبة بالبداوة والتشدّد الديني، يسارعون إلى موائد الأمراء والأثرياء الخليجيين الذين أرادوا مقابلاً جديداً لصدقاتهم من أرباح النفط.
ليست العروبة أيديولوجيا أو برنامجاً سياسياً لتحقيق الوحدة، وإنما أساس ثقافي ومادي للسياسة في البلدان العربية
نفور الجماهير العربية من الحركة القومية في تجلياتها المختلفة، وذلك النوع من السخرية الهازلة من عبد الناصر بالتحديد، تمكن قراءته هو نفسه كعقدة أوديبية يبديها الابن المصدوم بفساد والده وفشله في تحقيق وعده، أكثر مما هو عداء للفكرة التي يرمز لها هذا الأب، وهو تمرّد يحرّر العروبة نفسها من ربقة تجلياتها التاريخية، لا أنه يسعى إلى وأد العروبة ودفنها، وربما نجد أنفسنا حيال "ناصرية بلا عبد الناصر" (على غرار وصف إرنست لاكلو اليسار الأرجنتيني بيرونية بلا خوان بيرون، الزعيم الأرجنتيني الشعبي الذي اتجه يميناً في سنواته الأخيرة)، تجرّد خطاب عبد الناصر ووعوده من إرث نظامه التاريخي.
ليست العروبة في هذا الخطاب أيديولوجيا أو برنامجاً سياسياً لتحقيق الوحدة، وإنما أساس ثقافي ومادي للسياسة في البلدان العربية، يقتضي الحرص على التكامل العربي، من أجل مصالح مشتركة تشكلت بفعل التاريخ والجغرافية. ولا تتناقض العروبة بما هي كذلك مع واقع اختلاف المصالح أحياناً بين الشعوب العربية، بفعل التطور المركب واللامتكافئ بينها، وإنما تقتضي العروبة فحسب الحرص على تنظيم ذلك الاختلاف من أجل الصالح المشترك. العروبة بهذا المعنى هي التي تتجلّى في الاحتفاء باللاعب المغربي حكيم زياش ورفاقه من دون أن تبقى حبيسة الاحتفاء بجمال عبد الناصر ورفاقه.