من ريم البنا إلى ناي البرغوثي: مصر تخاصم نفسها
في الخامس من يونيو/ حزيران 2015، منعت السلطات المصرية المطربة الفلسطينية المناضلة ضد الاحتلال الصهيوني، ريم البنا، من دخول مصر. كان هذا المنع هو الثاني للفنانة التي أعلنت لجمهورها عبر صفحتها على "فيسبوك": "هل أفهم الآن أنّي ممنوعة من دخول مصر نهائياً؟ وهل هذا سيوقف أغنياتي عن الجريان في أوردة الشباب المصري .. في بيوتهم وفي الشوارع والميادين؟ سأغنّي لهم عبر سكايب إذن .. ولن يوقف صوتي أحد، ولا حتى الموت". قالت ريم: "سأظل أحب مصر التي عشقتها في أغاني الشيخ إمام، وأعرف أنّي سأكون قريباً بين أحبّتي هناك..، وسأغنّي معهم بصوت وقلب واحد".
ريم، الفائزة بجائزة شخصية العام وسفيرة السلام في إيطاليا عام 1994، وشخصية العام من وزارة الثقافة التونسية عام 1997، ثم بجائزة فلسطين للغناء عام 2000، وجائزة ابن رشد للفكر الحر عام 2013، أعلنت توقفها عن الغناء بعد أشهر معدودات من ذلك المنع من دخول مصر، بعد أن اشتدّ الصراع بينها وبين مرض السرطان اللعين، حتى تمكّن منها ورحلت عن 52 عاما في مارس/ آذار 2018، من دون أن تنال مصر شرف استقبالها الغناء على أرضها، بصوتها العربي الوفي الذي صار رمزًا للنضال الفلسطيني، ومعبرًا عن كلّ الأحرار في الوطن العربي والعالم كله.
هل حرموا ريم البنا من دخول مصر، أم حرموا مصر من موقف محترم بكل المقاييس القومية والوطنية والأخلاقية والإنسانية؟ الشاهد أنّ الحرمان طال مصر البائسة التي تغسل وجهها بالغاز الصهيوني، المسروق من فلسطين المحتلة، فيكتسب هذا الوجه قبحًا ودمامًة وتشوّهًا في الملامح، على الرغم من اللمعان الاصطناعي الذي يكسوه.
ما جرى مع ريم البنا، عادت مصر الغريبة عن نفسها والمتخاصمة مع تاريخها وجغرافيتها وهويتها، وكرّرته مع الفنانة الفلسطينية، ناي البرغوثي، أول من أمس، حين جرت عملية إيقافها في مطار القاهرة، ومنعها من دخول البلاد، على الرغم من أنها جاءت إلى مصر بدعوة رسمية مسبقة للغناء والعزف في حفلات تنظمها دار الأوبرا بالقاهرة والإسكندرية.
قالت ناي، مثلما قالت الراحلة ريم: "أحبائي في مصر، أمّ الدنيا، كما قرأتم، قرّرت دار الأوبرا في مصر تأجيل حفلتيّ في القاهرة والإسكندرية إلى موعدٍ غير محدّد بعد، وهذا بعد منعي في مطار القاهرة من دخول مصر الحبيبة لأسبابٍ لا أعرفها حتى الآن، رغم محاولاتي وبعد ثماني ساعات انتظار. صُدِمت، حَزِنت، وانتابتني مشاعر عديدة متضاربة"، وأضافت "كفنانة فلسطينية تربّت على قِيَم الصمود والكرامة، أرفض التنازل عن الأمل. بدعمكم/ن الجميل، وبقوة وعمق رسالتي الفنية والإنسانية، أرفع رأسي عالياً لأعِدكم/ن: لنا لقاء ولو بعد حين".
بالتزامن مع منع ناي البرغوثي من الغناء في مصر، كان المتحدّث العسكري المصري يبشّر المصريين بهذا الخبر "وصول فريق الألعاب الجوية الكوري الجنوبي إلى إحدى القواعد الجوية المصرية للمشاركة في العرض الجوي (Pyramids Air Show 2022) فوق الأهرامات".
وأنت تستذكر مأساة منع ريم البنا، وتتابع أنباء رفض دخول ناي البرغوثي، الفلسطينيتين، من المناسب، بل من الواجب أن تستدعي من الذاكرة مشاهد اجتياح آلاف الصهاينة حدود مصر الشرقية، وسط ترحيبٍ حارّ من السلطات لحضور حفلات راقصة ينظمها ضباط صهاينة سابقون في الفنادق المصرية في سيناء، احتفالًا بمناسبات دينية إسرائيلية، في مطلع أبريل/ نيسان الماضي. وربما يكون مهمًا أن ترجع إلى تاريخ أبعد من ذلك بقليل، لتعرف أنه في ذكرى اغتيال شيخ المقاومة الفلسطينية الشهيد أحمد ياسين، احتفلت سفارة العدو في القاهرة بمناسبة اعتبرتها تاريخية، حين نشرت أن مئات من الصهاينة وصلوا إلى القاهرة، وغنّوا ورقصوا تحت سفح أهرامات الجيزة، على إيقاع حفل موسيقيٍّ صاخب لفرقة أميركية.
استدراك مهم: ما تتحدّث عنه السطور أعلاه هو النسخة المزيفة من مصر، وليست مصر الحقيقية، التي يعرفها كل مدركٍ في العالم، بل ما نحن بصدده، وكما قلت سابقًا، هو طورٌ منعدم القيمة، منخفض القدر، حد الوضاعة، منها، لا علاقة له من بعيد أو قريب بما يعرفه العارفون عنها، ويحفظونه لها.
مصر الحقيقية محبوسة احتياطياً في زنزانةٍ يمرّ من تحتها غاز إسرائيل، فوقها يمرح طيران العدو، لذا وجب الاعتذار إلى ريم وناي، وكل الممنوعين من التعبير عن حب مصر، تنفيذًا لرغبات صهيونية.