من بشاعة الحرب في السودان

26 مايو 2023
+ الخط -

تختزل المعارك في السودان أبشع ما في الحروب. كانت 40 يوماً من المعارك كفيلة بنقل مشاهداتٍ مرعبة، وبعض منها محجوب، على غرار ما يجري في الجنينة في غرب دارفور، حيث ينقطع التواصل فيها منذ احتدام المواجهات. ومتى ما تمكّن الأهالي من الحديث يمكن توقّع سماع فظائع عما تعرّضوا له في ظل الاشتباكات التي لم تعد منحصرةً بين الجيش وقوات الدعم السريع، إذ دخلت القبائل على خطّ المعارك.

حتى اليوم، يمكن رصد تحويل المستشفيات إلى ثكنات، مع ما يعنيه ذلك من حرمان المرضى من حقّهم في العلاج والحكم على كثير منهم بالموت الحتمي، لا بالرصاص، إنما لفقدان الفرصة بنيل العلاج على غرار مرضى غسيل الكلى الذين تعجّ وسائل التواصل الاجتماعي بمناشداتهم للسماح بإعادة تشغيل المراكز الصحية ومن ثم ... وفاتهم، لأنه لا مستجيب لدعواتهم.

بدأت ظاهرة أخرى تبرز، ترتبط بالإخفاء القسري خلال تنقل المواطنين داخل الخرطوم، وحتى خلال محاولة الهرب منها والنزوح إلى مناطق أكثر أمناً. يومياً، يمكن قراءة منشوراتٍ لعائلاتٍ تناشد معرفة أي معلوماتٍ عن أقارب لها بعد انقطاع التواصل بهم على نقطة تفتيش أو مدخل مدينة. أما الاعتداءات الجنسية والاغتصاب في الخرطوم ودارفور، فبدأت تتسرّب الأخبار عنها. ومن بين مآسي الحرب الشهادات عن دفن ضحايا الاشتباكات داخل المنازل، لتعذّر الخروج منها، وهؤلاء إما قتلوا برصاصات طائشة أو قصفوا عن طريق الخطأ ودفنوا تحت ركام منازلهم. وتكاد الشهادات عن أعمال النهب لا تتوقف. ويكثر الحديث عن أسواقٍ تُباع فيها المنهوبات ليذكّر بما حدث بسورية أكثر من عقد. وتقدّم هذه الوقائع صوراً عن حرب السودان ومخاطرها. ثقافة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان متجذّرة في هذا البلد المثقل منذ لحظة استقلاله بالحروب والأزمات.

وإذا كان يُحسب لإعلان جدّة في 11 مايو/ أيار الحالي تركيزه على الوضع الإنساني، بما احتواه من بنودٍ يفترض أن يلتزم بها الجيش وقوات الدعم السريع، إلا أن الأيام التي تلت هذا الاتفاق أظهرت أنه لا تتوفر حتى اللحظة السبل لتنفيذه، بما يعنيه من غياب أي قدرة على حماية المدنيين ضحايا هذا الصراع. فحتى الاتفاق الملحق، المتعلق بهدنة سبعة أيام مهدّد منذ اللحظة الأولى بسبب الاشتباكات.

كل يوم إضافي في الحرب يعني أن قائمة الانتهاكات والضحايا تطول. ويمكن تصوّر حجم الكارثة إذا ما تفاقمت الحرب وتوسّعت لتشمل مناطق جديدة أو تتخذ بعداً قبلياً مع كل ما يرافق تحوّلاتٍ كهذه من تضاعف في الانهيار الأمني والأزمات الإنسانية. عبارات التنديد التي يطلقها مسؤولون دوليون وأمميون والتلويح الأميركي بالعقوبات غير كافية. وأيضاً تصوّر حلّ سحري للأزمة هو ضرب من الخيال.

يخوض الجيش وقوات الدعم السريع الحرب على قاعدة إلغاء الآخر، وإن كان خيار كهذا غير وارد. فالجيش بعد 40 يوماً من المعارك ظهر بوضوح أنه غير قادر على فرض سيطرته على العاصمة، بل تبيّن عجزه عن حماية مطامع العملة واحتياطات الذهب، بعدما تمكّنت، بحسب روايته، قوات الدعم السريع من اقتحامها ونهبها، "قبل أن يستعيد السيطرة عليها". كما أن قائد "الدعم السريع" محمد حمدان دقلو (حميدتي) ليس في وارد الإقدام على أي خطوة إلى الوراء، طالما أنه لم يتعرّض لضربة عسكرية قاصمة ولا يزال يمتلك التمويل للمضيّ في الحرب، ورسالته التي تحدث فيها أخيرا عن "عدم التراجع حتى إنهاء الانقلاب" تعكس بوضوح الفقّاعة التي يعيش بها أو بشكل أدقّ يتمسّك بترويجها أنه حامي الديمقراطية السودانية.

لكل هذه الأسباب، جمع الطرفين على طاولة مفاوضات في مثل هذه الظروف خطوة لا ينبغي التقليل من شأنها مهما كانت الإخفاقات، إذ لا يمكن تصوّر غير الحوار لمحاولة التخفيف من وطأة الكارثة الإنسانية، ومحاولة إيجاب مسار سياسي لحل الأزمة الراهنة.

جمانة فرحات
جمانة فرحات
صحافية لبنانية. رئيسة القسم السياسي في "العربي الجديد". عملت في عدة صحف ومواقع ودوريات لبنانية وعربية تعنى بالعلاقات الدولية وشؤون اللاجئين في المنطقة العربية.