من الورق إلى الشاشة
عندما تقرأ خبرًا عن تحويل رواية ناجحة إلى فيلم، أو مسلسل تلفزيوني، فذلك يعني، في اعتقاد الجميع، أن هذه الرواية راجت بين أيدي القُرَّاء، والقرَّاء قلَّة، ويتناقصون مع مرور الأيام؛ فلم تعد القراءة رائجةً متعة وهواية، ولكن الناس لم يتوقفوا عن مشاهدة الشاشات، وأصبحوا يلاحقون المنصّات الإلكترونية، في ما تنتجه وتضخُّه، يومًا بعد يوم. وفي ذلك ترى أن عشَّاق رائحة الورق، والسابحين مع خيال الكاتب، والسائرين وراء سيالات قلمه ونبضه، هم المحتجُّون، والباحثون عن الثغرات، والمشكِّكون دومًا بأن ينجح الفيلم، كما نجحت الرواية. والسبب أن خيالهم قد اشتعل، وتحرّك، وتفاعل مع الكاتب. أمَّا في الفيلم، أو المسلسل، فصُنَّاعه استخدموا رؤيتهم الإخراجية؛ لكي يعبِّروا عن الفكرة المطروحة في الكتاب.
لك أن تتصوَّر فقرة طويلة كتبها الكاتب، يصف فيها شعر البطلة، تخيَّل كم سرحت مع كلماته، وكيف غرَّد خيالك، وتسلَّق أعلى غصون سحر الكلمات، ولكنك تُفاجَأ بأن المُخرج قد استعاض عن هذه الفقرة بباروكة وضعتها البطلة على رأسها، يمكن أن يكون الأمر قد استغرق مع المخرج وقتًا؛ لكي يحوِّل فكرة وصف شعر البطلة إلى هذه الكومة من الشعر المستعار، ولكن الوقت الذي استغرقه الكاتب أطول، وهو يصف. أما الوقت الذي أمضيتَه أنت في رحلة خيالك فسيكون أطول، وفي كلِّ مرَّة تستعيد الوصف والمفردات فأنت تستغرق وقتًا أطول، وأكثر إمتاعًا.
قد يصدمك تحويل الكتاب إلى عمل فنِّي على شاشة التلفزيون، أو السينما. ولكن لا بد من بعض الاستثمار لنجاح العمل ورقيًّا، لو سلَّمْنا أن المؤلف لم يجنِ مالًا كافيًا من الورق، ولكن شراء العمل، وتحويله إلى عمل فنِّي سوف يدِرُّ عليه مالًا أكثر. إضافة إلى الشهرة، وبدلًا من جلوس الكاتب في مقهى المثقفين الفقراء المهمَّشين، سوف يسير على السجَّادة الحمراء، ويجالس كبار النجوم، ويشمُّ العطور الفاخرة التي يتضمّخون بها. وسوف تُعرَف صورته، وتُنشَر معهم، وهم يتناقشون حول العمل، أو يقتطعون قالبًا كبيرا من الكعك وضعت عليه صورة النجمة التي ستؤدي دور البطلة، والتي غالبًا لم تقرأ صفحة من الكتاب الأصلي، ولكن اسمها وشهرتها جاءا بها لتصبح البطلة التي أحبَّها بطل سلسلةٍ من الروايات المثيرة، مثلًا، والتي عشتَ سنوات عمرك، وأنت تقرأ وصف حبِّه لها، وتتوقَّع أنك في الأربعين من عمرك، قد تلتقي بحبِّ عمرك، فهذا الحب المتأخر يدفعك إلى أن تتمسَّك ببعضٍ من أشذاب حياتك المهلهلة.
ضجَّة كبرى أثيرت بسبب تحويل بعض روايات الكاتب المصري الراحل، أحمد خالد توفيق، إلى مسلسل حمل اسم السلسلة نفسه "ما وراء الطبيعة". وبالمناسبة، فقد كان صدور أوَّل عددٍ من السلسلة التي بلغت 80 عددًا متزامنًا مع احتفالي بأمومتي الأولى (العام 1993)، ولكن ذلك لم يمنع أن أصبح قارئة نهمة لرواياتٍ تحبس الأنفاس، يخوضها بطلٌ مختلف عن كل أبطال روايات الشباب، والذي أجاد وصفه الكاتب أحمد خالد توفيق، حتى تعلَّق به القرَّاء الصِّغار والكبار، وأحبُّوه، حتى وهو يدخِّن بشراهة، كقاطرة فحم، أو حين يبدو أنيقا ببذلته الكُحْليَّة الوحيدة، ورأسه الأصلع، ونحافته الشديدة كقلم رصاص "هذه أهم أوصاف البطل، طبيب أمراض الدم، رفعت إسماعيل".
بعد كلِّ هذه السنوات التي احتفظتُ فيها بسرِّي الأعظم، عن بطلٍ غير معتاد، لا يمتلك الوسامة، ولا البطولة الجسدية، يظهر مسلسل على الشاشة؛ لكي يصبح رفعت إسماعيل معروفًا لكلِّ هؤلاء الذين يشاهدون مغامراته الخارقة مع جانب النجوم والعوالم الموازية، وهم يلتهمون "البوب كورن"، فيما كنتَ تقرأ رواياتِه وأنتَ منعزلٌ عن العالم، محبوس الأنفاس، تكاد تسقط ميِّتًا، في ركن معتم من غرفتك، لا ينفذ إليه إلا ضوء يسير، يكاد يريك السطور أمامك، وتكتشف أن تجربة نقل الورق إلى الشاشات تجربة ليست سهلة. ولكن يجب عدم المقارنة؛ لكي لا تظلم أيًّا من العملين. ولكنك، كقارئ مزمن ومدمن، الخاسر الوحيد، والأعظم فيها، أنت الخاسر لحلم وسرٍّ لم يعودا كذلك.