من المسألة الزُّنبورية إلى "أمير الشعراء"
تقول الحكاية إن سيبويه مات وهو في غمٍّ وهمٍّ كثيرَيْن، ألمّا به بعد أن دُبّرت له المسألة الزُّنبورية، في بغداد التي قدِم إليها من البصرة. موجزُها، على ما أورد النُّسّاخ، أن اثنيْن من النّحاة (الكوفيين) ناظَرا سيبويه، وكان زعيمَ النّحاة البصْريين، في مجلس يحيى البرمكي، أحد وزراء الخليفة هارون الرشيد، وخطّآه في غير جواب، وقيل إنهما لم يكونا مؤدَّبَيْن معه، فطلَب أن يَلقَى "صاحبَهما" ليُناظرَه، وقصد الكسائي، إمام النّحاة الكوفيين، فكان له هذا في حضرة الرشيد في قصره. تحاجَجا في غير سؤال، وبرَع سيبويه كثيراً، الأمر الذي لم يكن مريحاً لناس القصر وذلك الوزير الذي خشي من أن تهتزّ في بغداد مكانة الكسائي، جليس الخلفاء وأنيس الرشيد ومؤدّبُه، حتى كان السؤال إلى سيبويه من الكسائي: "ماذا نقول: كنتُ أظنُّ أن الزُّنبورَ أشدُّ لسعةً من العقربِ فإذا هو هي أم فإذا هو إيّاها؟". والمقصد أيّهما الصحيح، الرّفعُ أم النصب؟ أجاب سيبويه بالرّفع، فإذا هو هي. خطّأه الكسائي وقال بالنّصب. وتجادلا، وبسَط سيبويه حُجَجَه وشواهده. وأراد الكسائي الاحتكامَ إلى أعرابٍ أقحاح، لم يُصِبهم اللحنُ، كانوا في باب القصر، فطلب دخولَهم. ويذكُر رواةٌ إن الوزير البرمكي كان قد رشا هؤلاء، من أجل أن ينتصروا للكسائي الذي رجّح كثيرون تبرئتَه من يدٍ له في "تزبيطهم"، ففعلوا هذا. ورُوي إن سيبويه طلبَ منهم أن ينطقوا تلك العبارة عن حشرة الزُّنبوْر بالنّصب، فلم تُطاوعْهم ألسنُتهم. وقد انصرف بعد الواقعة إلى شيراز (لم يعُد إلى البصرة)، منقبضَ النفس وحزيناً، وإنْ أعطاه البرمكي كيساً من المال، ثم مات بعد وقتٍ قصير.
ليس الليبي عبد السلام أبو حجر في منزلة سيبويه في الدراية بالعربية وصرْفها ونحوها، لكن ما جرى له في مسابقة أمير الشعراء في أبوظبي، أخيراً، على شيءٍ من الشبه بالموقعه الزُّنبورية، فقد جرت تخطئة هذا الشاب فيما هو على صوابٍ، بشأن رفْعٍ صحيحٍ لمفردةٍ في شطر بيتٍ من قصيدته التي ألقاها قدّام لجنة تحكيمٍ، أراد رئيسُها (أو عضوُها الأبرز؟) نصبَ المفردة، وأرادت زميلةٌ له الكسر، فيما ضحك ثالثُهم ولم يُعقّب. وقد حاججَ المتسابقُ في الأمر، وشَرَحَه، غير أن أيّاً من أعضاء اللجنة، وهم حَمَلة دكتوراة في اللغة والنقد، وعضوُها إياه (أو رئيسُها؟) يرأس مركز اللغة العربية في أبوظبي، لم يتجاوَب مع ما أفضى به أبو حجر. ولمّا كنّا في زمن "يوتيوب" و"السوشيال ميديا"، على غير زمن يحيى البرمكي، فقد شاهد ناسٌ لا عدَّ لهم هذا كلّه، ولم يكن من حاجةٍ إلى أعرابٍ أقحاحٍ يقولون ما قالته اللجنة، (بالنصب أو الكسر أو كليهما!)، فالمسألة عند غير أصحاب العنزةِ ولو طارت محسومةٌ لصالح المتنافس الذي أُقصي تالياً من قائمة العشرين الذين سيتبارون من أجل المرْتبات الأربع (يُحرِز صاحب الأولى مليون درهم إماراتي). ومؤكّدٌ أن ليس من مكيدةٍ في الذي وقع، كما التي أصابت سيبويه بسُويداءَ مُرّة، غير أنه يظلّ ماثلاً (أو خالداً؟) السؤالُ عن السبب الذي جعل العارفين باللغة في بغداد يمالئون الكسائي في تخطئته سيبويه، وهو سؤالٌ يُشابه آخرَ عمَّ يجعل أهل درايةٍ باللغة يُحابون رئيس لجنة "أمير الشعراء" (أو العضو البارز فيها)، بل ويأخذون بالذي اضطرّ لقوله إنما أرادوا اختبار أعصاب أبو حجر، من دون أن يلقى هذا القولُ مجرىً ينصرفُ فيه، بل ويصدّقون العجيب الذي أتاه صاحبُ هذا الكلام لمّا راح يغرّد ويدوّن إنهم "الإخونجية" يستهدفون ما تقدّمه أبوظبي من خدمةٍ للغة، وأنهم يحمِلون عليه وعلى بلدِه، ومُتعالمون، يريدون تخريب اللغة بعد أن خرّبوا الدين. ويكشف كل هذا القول، المضحِك لا ريب، عن متلازمةٍ مَرَضيةٍ تستبدّ بالرجل وحشاياه، تقسّم البشر إلى إخوانٍ مسلمين وغير إخوانٍ مسلمين.
اجتمع أهل اللغة على صواب سيبويه بشأن لسعة الزُّنبور، وانتصر الناسُ لصحيحٍ جادلَ فيه عبد السلام أبو حجر. وإذا جاز القول إن الذي جرى في قصر هارون الرشيد كان نزاعاً بين الكوفيين والبصْريين، وليس بين سيبويه والكسائي، ولم يكن هيّناً أن يُغلب فيه الأخير، فترتجّ سلطتُه وصورُتُه، فإنه لا تزيّد في الزعم إن ركوب ذلك المحكّم في "أمير الشعراء" رأسَه لا يعودُ إلى تمسّكه بقناعته بنصب تلك المفردة، وإنما لئلا يُرمى بأنّ شابّا ليبيا غلبه، فترتجّ أيضاً سلطتُه وصورتُه، وإنْ ما بينه وبين الكسائي ما بين النجوم في السماء والحصى في الأرض.