مناظرة الشتائم
"مناظرة الشتائم"... هكذا يمكن وصف المناظرة التي جرت الخميس الماضي بين الرئيس الأميركي جو بايدن وسلفه دونالد ترامب، اللذين يعدّان، حتى اللحظة، مرشّحي الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، في الانتخابات الرئاسية المقبلة، حيث كان تبادل الشتائم والإهانات السّمة الأبرز فيها، ورصدت وسائل الإعلام جانباً من الشتائم والإهانات التي وجّهها المتناظران لبعضهما، حيث وصف كلّ واحد منهما الآخر بأنه "أسوأ رئيس للولايات المتحدة". وعن ترامب قال بايدن إنّ حتى نائبه مايك بينس لا يؤيده، واصفاً إياه بـالطفل والأحمق والفاشل، والشخص المدان، وإن له "أخلاق قطط الشوارع"، ولا يستحق أن يكون رئيساً لأميركا. ولم يكن ترامب أقلّ قسوة وفظاظة في شتائمه لبايدن، وإن نحا، أكثر، نحو تقريعه على مواقفه السياسية، محمّلاً إياه مسؤولية الحرب في أوكرانيا بالقول: "لو كان هناك رئيس حقيقي يحترمه بوتين لما غزا أوكرانيا"، مضيفاً: "كان بايدن سيئاً في أفغانستان، وبوتين راقب هذا وراقب عدم الكفاءة"، مضيفاً: "نقترب من حربٍ عالمية ثالثة والعالم ينفجر بسبب قلة الاحترام لأميركا في عهد بايدن"، زاعماً أنه يترشّح لإصلاح ما أفسده بايدن، قائلاً: "لو كان لدينا رئيس عظيم لما كان هناك داعٍ لترشيح نفسي".
لم تكن الشؤون الشخصية العائلية للرجلين في منأى عن تقاذفهما الشتائم. وصف ترامب ابن بايدن، هانتر، بالمجرم، لكونه أُدين بتهمة حيازة سلاح بشكل غير قانوني، أما بايدن فقال عن ترامب إنّه أقام علاقة مع ممثلة أفلام إباحية بينما كانت زوجته حاملاً.
أهمّ ملف تبارز الرجلان في المزايدة عليه دعم إسرائيل في حربها على غزّة وعلى الشعب الفلسطيني عامة. تهرّب ترامب من قول رأيه بشأن قيام دولة فلسطينية مستقلة، فيما حاول بايدن إبراز "مآثره" في دعم إسرائيل، والالتزام بـ"أمنها" وتزويدها بكل أنواع الأسلحة للدفاع عن نفسها، بما فيها الأشدّ فتكاً بالمدنيين، ردّاً على اتهام ترامب له بأنّه يساند الفلسطينيين على حساب إسرائيل، واصفاً إياه بـ"الفلسطيني السيّئ" غير المحبوب من الفلسطينيين. ويؤكد موقف بايدن وترامب من القضية الفلسطينية، للمرّة الألف، أنّ الجمهوريين والديمقراطيين وجهان لعملة واحدة، فدعم العدوان الإسرائيلي نهج ثابت للدولة العميقة في واشنطن، بصرف النظر عمّن يكون سيداً للبيت الابيض، جمهورياً أو ديمقراطياً.
يبدو أن تنظيم هذه المناظرة، وفي هذا التوقيت المبكّر نسبياً قبل الانتخابات، مخطّط له من دوائر نافذة، لعل بعضها، وربما أهمّها، في الحزب الديمقراطي نفسه، حيث ينشأ لدى وجوه قيادية فيه، وكذلك في قاعدته الانتخابية، شعور بأن بايدن (81 عاماً) بلغ مرحلة من العجز الذهني والصحي تجعله عاجزاً عن إدارة حملة انتخابية ناجحة بوجه ترامب، فضلاً عن قيادة أميركا أربع سنوات إضافية في هذا الوضع الدولي الدقيق الذي يُنذر، في كل لحظة، باقتراب مواجهةٍ كونيّة، ستكون نوويّة هذه المرة.
فضلاً عن حال الإحباط العامة التي سادت قاعدة الديمقراطيين من الأداء السيّئ لبايدن في المناظرة أمام ترامب، وفشله الذريع في الردّ على مزاعم وأكاذيب أطلقها الأخير، خصوصاً حول موضوع الهجرة، فإنّ وجوهاً ديمقراطية قيادية بارزة خرجت عن صمتها، وأصبحت تطالب علانية بمصارحة بايدن بعجزه عن أن يمثل حزبهم في الانتخابات المقبلة، التي سيربحها ترامب إن لم تحدُث مفاجآت. ويبدو أن شبح فوز ترامب بالذات بات هو الدافع الرئيسي للديمقراطيين في التفتيش عن بديل مقتع لمنازلته، وشعورهم بأن هذا أمرٌ، إن لم يجر تداركُه الآن، سيكون الوقت متأخّراً.
الصحافي توماس فريدمان الذي يقدّم نفسه صديقاً لبايدن، كتب يقول: "بايدن رئيس جيد، لكنه ليس في وضع يسمح له بالترشّح لولاية ثانية"، كاشفاً أنه "بكى" لدى رؤيته أداءه في المناظرة مع ترامب. ابنة شقيقة جون كيندي الرئيس الأميركي الذي اغتيل عام 1963، ماريا شرايفر، وهي حليفة لبايدن، كتبت على منصة إكس: "قلبي مفطور". مثلها عبّر نوّاب ديمقراطيون آخرون عن الحاجة لقراراتٍ على حزبهم اتخاذها، واصفين أداء رئيسهم في المناظرة بـ"المروّع" و"المخيّب للآمال"، ولا يمكن وصفه بشيء آخر، فيما لم يتردّد آخرون في مطالبة بايدن بالانسحاب من السباق الرئاسي.
كتبت "نيويورك تايمز"، بعد الإشادة ببايدن: "أعظم خدمة عامة يمكن أن يؤديها الآن أن يُعلن أنّه لن يستمر في الترشّح لإعادة انتخابه".