ملائكة الرحمة
حتى زمن قريب، لم يكن أحدٌ يحب وظيفة الممرّضة، وكانت أمي تلقبها بـ"خطافة الدكاترة". والحقيقة أن الأفلام العربية القديمة قد أسرفت في هضمها حقها وظلمها، فدائما الممرّضة تخطف قلب الطبيب حتى لو كان متزوجا، وبالغت في تشويه صورتها بأنها تخطف مدير المستشفى، وتترك زوجته وأطفالهما مع دموعهم. ومع ذلك لا يمكن لأحد أن ينكر دورها وعملها، ولا يمكن أن ننكر أن الممرّضة هي ملاك الرحمة الساهر على راحة المريض، بعد أن يغادر الأطباء إلى بيوتهم، ولا يبقى سوى الطبيب المناوب، كما أن الممرّضة هي التي تواجه المرضى بشكل مباشر ومدة أطول، وتنفذ أوامر الأطباء وتعليماتهم بعد معاناة وتعب مع المرضى الذين يخافون الحقن ويكرهون طعم الأدوية. ولذلك، لا يمكن أن نبقى على صورة نمطية مستهلكة لها، وسوف تعلو في أذهاننا ومعتقداتنا الصورة الطاغية اللامعة لذلك الملاك الساهر، مهما كان هناك من تجاوزات واستثناءات.
ولأننا بصدد الحديث عن ملائكة الرحمة، ولكل كلمة دلالاتها في هذا التركيب، هناك مثل إغريقي "اليد التي تمدّ بها بالدواء قبل الدواء"، وذلك للتأكيد على المعاملة والأسلوب اللذين يلقاهما المريض، وكيف يمكن أن يؤثرا على شفاء المريض وسرعته. وقد سألت طالبة عالمة الأنثروبولوجيا، مارغريت ميد، ذات مرّة عما تعتبره أول علامة على الحضارة في ثقافةٍ ما، وتوقعت الطالبة أن تتحدّث العالمة عن الأواني الفخارية أو الأحجار أو حتى الفؤوس التي استخدمت لقطع الأشجار، لكن الإجابة كانت مفاجئة، أن أول علامةٍ على الحضارة في ثقافةٍ قديمةٍ هي إثبات وجود شخص شفي من كسرٍ في عظم الفخذ، ففي مملكة الحيوان، إذا كسرت ساقك، تموت، حيث لا يمكنك الهروب من الخطر، أو الذهاب إلى النهر لشرب الماء، أو الصيد لكي تطعم نفسك، فتصبح لحمًا طازجًا للحيوانات المفترسة، وقليلا ما ينجو الحيوان من ساقه المكسورة. ولكن العثور على كسر عظم الفخذ الذي تم شفاؤه في عالم الإنسان دليل على أن شخصا ما قضى وقته مع الشخص الذي سقط وكسر عظمه، ووضع له "جبيرة"، ونقله في مكان آمن واعتنى به حتى تعافى. وهكذا خلصت العالمة مارغريت ميد إلى أن مساعدة شخصٍ ما في مواجهة الصعوبات هي نقطة انطلاق الحضارة، وأن الحضارة هي تكاتف المجتمع. وبناء على ذلك، المريض الذي يلقى عناية هو المريض المحظوظ. ويمكن أن نقيس على ذلك أحد الأبوين لو تقدّم به العمر حتى أرذله، وأصبح طريح الفراش، وقام أولاده البارّون برعايته، فهو سوف يكون في وضع نفسي جيد، ولن يتوقف عن التفاعل مع الآخرين، وتتبع تطوّرات الحياة حوله من خلال وسائل التكنولوجيا المتاحة حوله. ولن يتراجع وضعه الصحي، على العكس من الأب الذي يهمله أولاده، ويتأففون من رعايته، ويغلقون أنوفهم وهم يعتنون بنظافته الشخصية ويسمعهم بأذنيه خارج غرفته في عراكٍ دائمٍ حول جدول العناية به واجبا ثقيلا.
المريض الذي كان قوياً قبل أيام يمتلك نفسا حسّاسة ومرهفة، ويخشى من أن يصبح عبئا على أحد، وينتظر اللحظة التي يفارق فيها السرير، وحين يجد من يرعاه يمتلئ بالأمل، والأمل هو الدواء الفعال، وليس العبوات والمحاليل الوريدية والأجهزة المحيطة ذات الإيقاع الرتيب المنبئ بخطورة أو تقدّم صحي بطيء. ويبدو أن مناسبة هذا المقال قد جاءت لما أثير أخيرا عن حادثة وفاة إعلامي فلسطيني بارز، قد بدأ يتعافى فعلا من مرضه، لولا أنه قد تلقى معاملة سيئة من إحدى الممرّضات، وفيما نادت عائلته بضرورة فتح تحقيق بذلك، علينا أن نتذكّر أن كل مهنة تحوي الصالح والطالح. وقد يكون التعميم ظالما، لكن ذلك لا يعني بالطبع السكوت عن الطالح، وعدم معاقبته في حال ثبوت ذلك، لأننا في زمن جائحة كورونا أحوج ما نكون لملائكة الرحمة.