مكاسب دولية في مواجهة طغيان الاحتلال الإسرائيلي

16 فبراير 2022

(كمال بلاطة)

+ الخط -

التقرير الذي أصدرته منظمة العفو الدولية أخيرا عن الممارسات العنصرية المنهجية ونظام الفصل العنصري الذي تمارسه إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني هو الحلقة الأحدث في سلسلة من المكاسب القانونية والسياسية التي حققها المجتمع المدني الفلسطيني، وكذا الدولي، في مواجهة سياسات الاحتلال الإسرائيلي. تنبع أهمية هذا التقرير، ومن قبله تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش، الصادر في إبريل/ نيسان 2021، بشأن الموضوع نفسه، أنهما قد صدرا عن المؤسستين الحقوقيتين الكبريين في العالم، والموجودتين في عواصم غربية بالأساس. أحدثت هذه التقارير نقلةً نوعيةً في توصيف الصراع القانوني مع الاحتلال الإسرائيلي، والتدليل على كونه نموذجا معاصرا لنظام فصل عنصري، بلغة قانونية منضبطة، تجد صدىً وتعاطفاً مع الرأي العام العالمي. وتجدر الإشارة إلى أن عمل هذه المؤسسات قوبل بضغوط مكثفة عليها من الحكومة الإسرائيلية، وحلفائها الحكوميين وغير الحكوميين. فعلى سبيل المثال، قرّرت السلطات الإسرائيلية عام 2019 طرد مدير مكتب "هيومن رايتس ووتش" في فلسطين عمر شاكر، بدعوى انخراطه في أنشطة الحركة الدولية لمقاطعة إسرائيل.

انصبّ الاهتمام العربي منذ السبعينيات على ربط الصهيونية بالعنصرية، الأمر الذي تجسّد في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1975، والذي جرى التراجع عنه عبر الجمعية العامة أيضاً في ديسمبر/ كانون الأول 1991. ويشير الميثاق العربي لحقوق الإنسان، والصادر عن جامعة الدول العربية عام 2004، في ديباجته ومادته الثانية، إلى رفض "أشكال العنصرية والصهيونية". ولكن لم يكن هناك بناء قانوني واضح للتداعيات القانونية والحقوقية لمفهوم الصهيونية في الوقت الذي تتباين فيه دلالاتها التاريخية والأيديولوجية أو الدينية. الأمر الذي جعل تصدير هذا المفهوم لا يجتذب تعاطفا عالميا في ظل قناعة رسّختها إسرائيل أن زجّ عبارة الصهيونية يهدف، بالأساس، إلى رفض إسرائيل، وتعبيرا عن العداء للسامية. لكن التركيز في السنوات الأخيرة تحول إلى الأساس القانوني لتأسيس نظام الفصل العنصري، وهو الأكثر دقة وانضباطاً، وله من المعايير الموضوعية التي يمكن القياس والتدليل عليها. فضلاً عن أنه إحدى الجرائم الدولية المعرّفة في المعاهدة الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها، والتي دخلت حيز النفاذ في يوليو/ تموز 1976، كما أنها من الجرائم المنصوص عليها في ميثاق روما للمحكمة الجنائية الدولية، والذي دخل حيز النفاذ في يوليو 2002، فالشهادات والأدلة التي وثقتها ونشرتها تقارير منظمة العفو الدولية، وقبلها "هيومن رايتس ووتش"، ستكون لها بالتأكيد أهمية كبيرة في القضية التي تنظرها حاليا المحكمة الجنائية الدولية ضد إسرائيل، والتي باشر التحقيق فيها المدّعي العام للمحكمة بعد انضمام فلسطين لنظام روما في يناير/ كانون الثاني 2015، وإعلان الحكومة الفلسطينية قبولها باختصاص المحكمة بدءاً من 13 يونيو/ حزيران 2014. من ناحية أخرى، فقد اعترف 47 من المقرّرين الخواص والخبراء المستقلين في الأمم المتحدة في يونيو 2020، ولجنة القضاء على التمييز العنصري التابعة للأمم المتحدة في ديسمبر/ كانون الأول 2019 بارتكاب اسرائيل جريمة الفصل العنصري ضد الشعب الفلسطيني.

أعلنت المفوضية السامية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة عن قاعدة بيانات تضم 112 مؤسّسة تجارية إسرائيلية ودولية تمارس أنشطة اقتصادية في المستوطنات الإسرائيلية بالمخالفة للقانون الدولي

لقد توالت في الأعوام الثلاثة الأخيرة المكاسب الناتجة عن التوظيف الفعال لآليات القانون الدولي، والتي صعّدت من الكلفة الأخلاقية والاقتصادية والسياسية لسياسات الاحتلال الإسرائيلي، في المجتمعات الغربية بشكل أساسي. تمثلت بداية هذه المكاسب في قرار محكمة عدل الاتحاد الأوروبي في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، والذي ألزمت فيه الدول الأوروبية بتمييز تلك الصادرات القادمة من المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية، وتقديم منشأها الحقيقي للمستهلك الأوروبي، وعدم اعتبارها صادراتٍ قادمةً من إسرائيل، فقد اعتبرت المحكمة أن عدم تصنيف هذه المنتجات بشكل صحيح يعدّ "تضليلاً للمستهلكين الأوروبيين الذين لديهم الحق في تحديد اختياراتهم نتيجة اعتبارات اقتصادية أو بيئية أو اجتماعية أو أخلاقية". كما ألزمت المحكمة نفسها المفوضية الأوروبية في مايو/ أيار 2021 بتسجيل عريضة شعبية تطالب بوقف جميع التبادلات التجارية مع المستوطنات الإسرائيلية. وكانت هذه العريضة قد قدّمت للمفوضية الأوروبية في إطار آلية "مبادرة المواطنين الأوروبيين"، والتي تسمح للمواطنين الأوروبيين، في ظل شروط وإجراءاتٍ محدّدة، في المساهمة بشكل مباشر في صناعة سياسات الاتحاد الأوروبي. وكانت المفوضية الأوروبية قد رفضت في وقت سابق الاعتراف بالمبادرة الشعبية التي جاءت تحت عنوان "ضمان سياسة تجارية مشتركة متسقة مع القانون الدولي، والاتفاقات الأوروبية" حرصا على العلاقات الثنائية مع الحكومة الإسرائيلية. وجدير بالذكر أن هناك نحو 672 مؤسسة مالية أوروبية لها علاقات مالية مع 50 شركة تمارس نشاطها مع المستوطنات الإسرائيلية، حيث يكشف تقرير الائتلاف الدولي "لا تساهم في تمويل الاحتلال"، الصادر في سبتمبر/ أيلول 2021، عن استلام هذه الشركات 114 مليار دولار في شكل قروض واكتتابات. وبعد نضال طويل من المنظمات الحقوقية الفلسطينية والعربية والدولية، أعلنت المفوضية السامية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة في فبراير/ شباط 2020 عن قاعدة بيانات تضم 112 مؤسّسة تجارية إسرائيلية ودولية تمارس أنشطة اقتصادية في المستوطنات الإسرائيلية بالمخالفة للقانون الدولي، وتلتزم المفوضية السامية بموجب قرار سابق من مجلس حقوق الإنسان بتحديث لقاعدة البيانات.

نجحت مؤسسات المجتمع المدني في تحقيق مكاسب، فيما تجنّبت معظم الحكومات العربية استخدام وسائل ضغط لديها لنصرة الشعب الفلسطيني

وفي سياق مواجهة القيود التشريعية، والضغوط المفروضة على أعضاء (ومناصري) الحركة الدولية لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض عقوبات عليها (BDS) في بلدان أوروبية، مثل فرنسا وألمانيا، قرّرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، والتي تتخذ من ستراسبورغ مقراً لها، في سابقة هامة في يونيو/ حزيران 2020 في قضية "بالداسي وآخرون ضد فرنسا" أن القوانين التي تجرّم نشاط هذه الحركة تمثل انتهاكاً للحريات المكفولة في الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، وبشكل خاص الحق في التنظيم، وحرية الرأي والتعبير. وقد ألزمت المحكمة الحكومة الفرنسية، بموجب هذا القرار، بالتراجع عن إدانتها نشطاء بموجب هذه القوانين عام 2015. وقد ساهمت هذه السابقة القضائية أمام واحدةٍ من أهم المحاكم الإقليمية لحقوق الإنسان في إضفاء مشروعية قانونية وسياسية على المستوى الدولي لنشطاء حركة المقاطعة ومناصريها، واعتبارهم من المدافعين عن حقوق الإنسان.

لقد نجحت مؤسسات المجتمع المدني في تحقيق هذه المكاسب، في وقتٍ تجنّبت فيه معظم الحكومات العربية استخدام وسائل ضغط لديها لنصرة حقوق الشعب الفلسطيني، بل تسابقت كثير من هذه الحكومات، في الآونة الأخيرة، إلى تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، وفي أحيان كثيرة، التضييق على النشطاء العرب المنخرطين في حركة مقاطعة إسرائيل واعتقالهم. ولدينا في ما جرى للناشط الفلسطيني المصري رامي شعث مثال، حيث أمضى نحو عامين ونصف العام خلف القضبان، إلى أن جرى الإفراج عنه بعد اضطراره للتخلي عن جنسيته المصرية ثم مغادرته إلى فرنسا. تعاظم تأثير هذه المكاسب على المستوى الدولي صوب تحقيق هدف حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني يظل رهناً لمتغيرات السياسة الفلسطينية والعربية، وبشكل خاص مستقبل استمرار الانقسام السياسي الداخلي في فلسطين، والتوجه الحكومي العربي المشين بإعطاء شرعية دولية وإقليمية لمن لا يستحقّ عبر التعميق غير المسبوق والمتسارع للعلاقات الثنائية مع إسرائيل، وكأن هذه المعارك القانونية الدولية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي لا تعنيهم.

معتز الفجيري
معتز الفجيري
معتز الفجيري
أكاديمي وحقوقي مصري. أستاذ مساعد ورئيس برنامج حقوق الإنسان في معهد الدوحة للدراسات العليا. عمل سابقاً في العديد من المنظمات غير الحكومية العربية والدولية المعنية بحقوق الإنسان.
معتز الفجيري