مقاومة الاحتلال بطولةً .. مقاومة الاحتلال إرهاباً
لم تكتفِ الدول الغربية بالإدانة الواسعة للغزو الروسي لأوكرانيا بتصريحات من كلّ الزعماء الغربيين، كباراً وصغاراً، حاكمين ومعارضين، بل اتخذت هذه الدول أيضاً قرارات جماعية وفردية لدعم الشعب الأوكراني في مواجهة الغزو الروسي، والعمل على كلّ المستويات من أجل إفشال هذا الغزو، ليس بإدانة وحسب، وليس بمساعدة الشعب الأوكراني بالمال والسلاح وفتح باب التطوع في هذه الدول للمشاركة في صد الغزو الروسي، بل اتخذت هذه الدول قراراتٍ عقابية بحق روسيا، وفرضت عقوباتٍ على مؤسسات روسية، وعلى أشخاص مرتبطين بالسلطة الحاكمة فيها. وقد استضافت برلمانات الدول الأوروبية، إضافة إلى الولايات المتحدة وكندا وإسرائيل، وغيرها من الدول، الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، ليعرض قضيته أمامها وليصفق أعضاؤها له، وهو بدوره طالب بمزيد من العقوبات ضد روسيا، وطالب بحظر جوي فوق أوكرانيا لمنع الروس من قصف المدن الأوكرانية.
ظهر العالم موحداً ضد الغزو الروسي لأوكرانيا، وباتت قضية الاحتلال مسألة غير قابلة للمساومة من العالم الذي يقف مع الضحية في مواجهة الجلاد. واستنتج بعضهم أنّ زمن الاحتلال السهل لم يعد قائماً، وأنّ العالم أصبح أكثر عدالة، وأكثر إنصافاً للشعوب التي تعاني من الاحتلال الذي لم يعد غير شرعي فحسب، بل لم يعد من الممكن السكوت عنه، ويعاقب من يقوم به، ما يعني أنّ على الدول الأخرى منعه من الانتصار، بجعله مكلفاً وخاسراً، ليس على مستوى الصراع في ساحة المعركة فحسب، بل وفي معاقبة الغازي اقتصادياً وحتى طرده من المؤسسات الدولية، وإخراجه من دورة المصارف الدولية، مع العمل على عدم التسبّب بحرب عالمية جديدة.
لقد أصبح العالم أكثر عدالة، وهذا يعني أنّ كل دولة احتلال يجب أن تدفع الثمن، وعلى العالم أن يقف مع كلّ ضحية ويقدّم لها المساعدة والدعم، لتحصل على حقوقها وحرّيتها. تحتل هذه الصورة وسائل الإعلام في العالم، فأوكرانيا حدث الساعة، الدرس البليغ الذي يجب قراءته جيداً، هل يقول إنّ العدالة باتت مطلباً في العالم، وهي قابلة للتعميم في عالم اليوم، ليغدو أكثر عدالة، مستنداً إلى الدرس الأوكراني في الدعم الدولي الذي تلقته أوكرانيا ضد الاحتلال في أسابيع قليلة؟
بدل معاقبة إسرائيل على احتلالها الأراضي الفلسطينية، تقدّم الولايات المتحدة المساعدات السخية لها، وبمليارات الدولارات
يعتقد الكاتب هنا أنّ الدرس الأوكراني يشير إلى مزيد من اختلال العدالة في عالم اليوم، بدل أن يشير إلى اقتراب العدالة من تحقيق ذاتها في هذا العالم. لماذا؟ لأنّني ببساطة، إذا استبدلت الاحتلال الإسرائيلي بالاحتلال الروسي في الفقرة السابقة من هذا المقال، سأحصل على نتائج متناقضة بشكل صارخ. بالطبع، مسألة دعم أوكرانيا ضد الغزو الروسي أخلاقية في الاصطفاف مع الضحية في مواجهة الجلاد، حتى لو كان المرء يختلف مع القيادات الأوكرانية في قضايا كثيرة، في مقدمتها أنّهم لا يرون غضاضةً في الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، في وقتٍ يصرخون في وجه العالم كله، أن يدعمهم في مواجهة الاحتلال الروسي. وهنا مسألة محرجة، أنّ ضحية لا تدعم ضحية تشبهها، بل تذهب لدعم الجلاد. بالطبع، لا يغير هذا من ضرورة الوقوف مع الضحية في مواجهة الجلاد، مع الشعب المظلوم في مواجهة الشعب الظالم.
لا يدعم العالم الغربي أوكرانيا لأسبابٍ تتعلق بأخلاقية قضيتها، أو برفض هذا العالم الاحتلال ومقاومته من حيث المبدأ، بصرف النظر عن هوية المُحتل، ما يحكمه هو عالم المصالح المغلف بالوقوف مع الحقوق. وإذا كانت المسألة دعم القضايا المحقة في العالم، فإنّ هذا السلوك القوي في مواجهة الاحتلال الروسي يجب أن نراه في مواجهة احتلال آخر، الإسرائيلي. لكن ما نراه هو العكس، فبدل معاقبة إسرائيل على احتلالها الأراضي الفلسطينية، تقدّم الولايات المتحدة المساعدات السخية لها، وبمليارات الدولارات، وتتعاون معها عسكرياً واستخباراتياً واقتصادياً. عندما تريد الولايات المتحدة انتقاد سلوك احتلالي إسرائيلي في الأراضي الفلسطينية، فهي، في أحسن الحالات، تعدّه "لا يخدم العملية السلمية". يتحدثون عن عمليةٍ ماتت منذ أكثر من عقدين، من دون أن تحاول الولايات المتحدة ممارسة أي ضغوط جدّية على إسرائيل لإعادتها إلى عملية السلام التي تتحدّث عنها. والحال أسوأ مع القيادات الأوروبية، فأيّ تصريح فيه قليل من انتقاد للاحتلال الإسرائيلي يواجَه من إسرائيل بتوبيخ، تسكت هذه القيادات عنه، كما لا يقل دعم هذه الدول لإسرائيل عن الدعم الأميركي.
يؤكّد الدرس الأوكراني أنّ العالم يذهب إلى مزيد من عدم العدالة، وحتى تكون العدالة معك، يجب أن تكون مع الطرف الأقوى وتحقق مصالحه
ليست المسألة معقدة، إنها المصالح "يا غبي" هي المحرّك للسياسات، وليست العدالة وحقوق الإنسان. وليس القارئ في حاجة إلى سرد تاريخ الولايات المتحدة مع الاحتلال وحقوق الإنسان. تكفي الإشارة إلى الاحتلال الأميركي للعراق وأفغانستان والجرائم التي ارتكبت فيهما، وإلى سجن غوانتانمو، والقائمة تطول.
يؤكّد الدرس الأوكراني أنّ العالم يذهب إلى مزيد من عدم العدالة، وحتى تكون العدالة معك، يجب أن تكون مع الطرف الأقوى وتحقق مصالحه. في هذه الحالة، تنطبق الشرعية الدولية وحقوق الإنسان عليك، وأوكرانيا في هذه الحرب كانت في الموقع المناسب، لذلك باتت قوانين حقوق الإنسان تنطبق عليها، وحق مقاومة الاحتلال، وأصبح الأوكرانيون الذين يقتلون جنوداً روساً أبطالاً (قارن مع الفلسطيني الذي يقتل جندياً إسرائيلياً، فهو إرهابي، ليس بالمقياس الإسرائيلي فحسب، بل بمقياس كلّ الدول الغربية أيضاً). أما إذا كنت على الجهة الأخرى من الخندق فليس لك حقوق، ولا تنطبق عليك شرعة حقوق الإنسان، وليس هناك غضاضة في أن تدعم الدول الغربية المُحتل، مع قليل من نقد خجول، لا يعيق استيلاء الاحتلال الإسرائيلي على مزيد من الأراضي الفلسطينية.
بدل أن يشيع الدرس الأوكراني الأمل لدى الفلسطينيين بأنّ زمن العدالة قادم ويشمل فلسطين، فهو يصيبهم باليأس والإحباط، من عدم عدالة عالم لا يراهم ويصطفّ مع محتلهم، وهذا ما يجعلهم يعملون على إعادة إثبات وجودهم عبر عمليات يقوم بها أبطال في مواجهة الاحتلال، يصرُّ العالم الغربي، المنحاز ضد الاحتلال في أوكرانيا، أن ينحاز ضدهم ويقف مع دولة الاحتلال ويسميهم "إرهابيين".