مفترق طرق تاريخي
في وقت ينتظر فيه العالم ردَّي كلّ من حركة حماس وحكومة بنيامين نتنياهو على المقترح الأميركي، فإنّ النتيجة قد تكون الذهاب نحو هدنة ووقف لإطلاق النار، وربما نحو مرحلة جديدة سياسياً، ليس في الحالة الفلسطينية فحسب، بل في المنطقة، وقد تذهب الأمور نحو تصعيد مسلّح أكبر، وربما توسيع ساحة الصراع مع ارتفاع الاشتباكات المُسلّحة وتوسّعها بين حزب الله وجيش الاحتلال في المناطق الشمالية، فالتطوّرات ما تزال مفتوحةً على احتمالات وسيناريوهات متضاربة.
ثمّة حالة من "عدم اليقين" ومن الضبابية، في اللحظة الراهنة، التي تُخيّم على المشهد في غزّة، وتصيب حتّى الأطراف المعنيّة باتخاذ القرارات؛ الأمر الذي دفع مُحلّلاً سياسياً وخبيراً في السياسات الأميركية والشرق الأوسط، وهو توماس فريدمان، إلى أن يقول، في مقابلة قصيرة مع قناة الجزيرة قبل أيام، إنّه بالفعل لا يعرف ما هو السيناريو الذي قد تؤول إليه الأمور؛ إمّا إلى مرحلة سياسية لتدشين تصورات إقليمية جديدة، أو حرب تتوسّع وقد تشمل عدة دول، وتبتلع مقترح بايدن، ومحاولات الحلّ السياسي ووقف إطلاق النار.
أين تكمن العقدة؟... في أمرين رئيسَين؛ الأول، بنية الحكومة الإسرائيلية الحالية، وهي يمين مُتطرّف مُتشدّد، يخلط ما بين الأهداف السياسية والأحلام التوراتية، يشارك في حكومة نتنياهو، والأخير الذي يخلط بين منظوره الأيديولوجي للأمن القومي الإسرائيلي والأسباب الشخصية الحاسمة في موقفه من وقف إطلاق النار، والضمانات التي يريدها من الأميركيين لمستقبله السياسي (بالضغط على يائير لبيد وغانتس والمعارضين لنتيناهو لتوفير غطاء بديل في حال انسحب حزبا سموتريتش وبن غفير).
الأمر الثاني، العقلية التي تحكم إسرائيل، أو منطق المُنتصر والمُتغلّب الدائم، أو "اعتياد النصر"، كما وصفها أستاذ العلوم السياسية الأردني، وليد عبد الحي، فالمجتمع السياسي الإسرائيلي الحالي هو مُحصلّة المعارك العسكرية والسياسية العربية - الإسرائيلية (منذ 1948 حتّى آخر اتفاقيات التطبيع الإقليمية)، وهي عقلية تقوم على معايير حاسمة في الحدود الدنيا للأمن الإسرائيلي، وفي الحالة الراهنة لن يكون مقبولاً، ليس فقط لنتنياهو، بل حتّى للمؤسّسات العسكرية والأمنية الإسرائيلية، أقلّ من تدمير "حماس" بالكامل، وضمانات فيما يتعلّق بمستقبل غزّة، بما يعني عدم قيام أيّ تهديد عسكري مباشر من هناك، والحال نفسها، في مرحلة لاحقة، ستكون مع حزب الله ولبنان.
المشكلة أنّ ما تحكم الموقف الإسرائيلي حسابات عقلانية - واقعية في الربح والخسارة، بل "عقلية" و"ثقافية". وبالمناسبة، هي لم تتغيّر منذ تأسيس الكيان، وبالعودة إلى كتابٍ مُهمّ صادر قبل أعوام؛ "سيّد اللعبة: هنري كسنجر وفنّ الديبلوماسية في الشرق الأوسط" (ترجمة ياسر صديق، دار نهضة مصر، القاهرة، 2023)، لأحد أهم الاستراتيجيين الأميركيين الحاليين، مارتن أنديك، من المفيد مراجعة الموقف والظروف التي سبقت حرب 1973 وما بعدها، ومقارنتها باليوم، لنجد أنّ العقلية الإسرائيلية لم تتغيّر في ما يتعلق بمفاهيم الأمن والقلق الوجودي، لكنّ الاختلاف والفرق أنّه كانت لدى كيسنجر، وهو يهودي ومُؤيّد لإسرائيل، القدرة على الدخول في ثنايا السيكولوجيا الإسرائيلية وجرّها إلى مرحلة التطبيع مع مصر.
يبدو اليوم أنّ الرئيس الأميركي جو بايدن حاول، في خطابه ومقترحه زيادة الضغط على نتنياهو وإجباره على وقف إطلاق النار، ليس لمصلحة الفلسطينيين، ولا بسبب الكارثة الإنسانية المرعبة في غزّة، بل لحسابات داخلية أميركية، ولحسابات المصلحة الاستراتيجية لإسرائيل، التي يرى بايدن أن نتنياهو يضرّ بها، وأنّه قد أضاع الطريق (!) ليست المشكلة لدى حركة حماس، بأيّ منطق واقعي وعقلاني، فالحركة قدّمت مطالب منطقية وتنازلت عن شروطٍ كثيرة، لكنّها في النرجسية التي أصابت الكيان وجعلته لا يرى بديلاً عن الحسم العسكري، الذي وصل إلى حلقة مفرغة.
عودة إلى فريدمان ومقابلته؛ من الطريف أنّه رأى بأنّ وضع إسرائيل في المنطقة، بعد "طوفان الأقصى"، والعدوان الإسرائيلي على غزّة، يعود بها إلى 1947، أي مشكلة وجودية في حال تطورت الحرب، بما يشبه البدايات، لكن هذه المرّة بأسلحة فتّاكة وبخصوم مُختلفين.