مفاوضات جدّة السودانية بين الواقع والمأمول
من المتوقّع أن تنطلق في جدّة مفاوضات غير مباشرة، دعت لها الولايات المتحدة والسعودية طرفي الصراع في السودان، القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، ومن المتوقع أن تعقد المفاوضات في شكل لقاءاتٍ غير مباشرة بين الطرفين، بحيث يلتقي كل منهما على حدة مع المسهلين السعوديين والأميركيين بغية استكشاف مواقف كل طرف لصياغة رؤية توافقية مشتركة من مواقف الطرفين ما أمكن. ومن شأن منهج كهذا في التفاوض أن يطيل أمد هذه الجولة الأولى، وليس من المتوقع أن يلتقي الطرفان بشكل مباشر على الأقل في هذه المرحلة.
ومن المتوقع بحسب التصريحات والمواقف المعلنة وكذلك الشواهد والقرائن أن تقتصر رؤية القوات المسلحة السودانية على التوصل إلى هدنة إنسانية قصيرة الأجل، لتلافي الوضع الإنساني المتدهور، خصوصاً في الجوانب الصحية في المستشفيات ومراكز الكهرباء ومحطّات المياه، لما تمثله هذه الخدمات من حاجة ماسّة، بحيث تمكّن هذه الهدنة العاملين في مجال هذه الخدمات من الوصول إلى مواقع عملهم، حتى يتمكّنوا من إصلاح ما يمكن إصلاحه في هذه المواقع المدمّرة أصلاً، مثلما أن هذه الهدنة تمكّن كوادر الدفاع المدني والمواطنين من مواراة الجثث المنتشرة في الطرقات العامة الثرى في مناطق عديدة، وهو حالٌ يمثل كارثة إنسانية غير محتملة، مع الأخذ في الاعتبار الصعوبات اللوجستية المتمثلة في المخاطر الأمنية وانعدام الوقود لتشغيل هذه المراكز والمحطات، فضلاً عن الحاجة إلى الوقود للسيارات التي تقلهم إلى هذه المواقع.
ومن غير المتوقّع أن يقبل الجيش هدنة طويلة الأجل، أو وقفاً شاملاً لإطلاق النار، يمنح وقتاً إضافياً لقوات الدعم السريع لالتقاط أنفاسها وتجميع صفوفها والتواصل مع قيادتها التي انقطعت عنها في الأيام الماضية، وربما حصولها على التموين والأسلحة والذخائر والعودة إلى القتال، ما يعني انعدام الثقة تماماً بين الطرفين. وليس من المتوقع أن يقبل الجيش أن تتناول المفاوضات أي جوانب سياسية، حتى لا يمنح قيادة قوات الدعم السريع ما لا تستحقه، لأن ذلك يعطيها وضعية سياسية فى النتيجة النهائية للصراع، وهذا ما لا يرغب فيه الجيش المتمسّك بنظرته، أن هذه القوات ليست سوى قوات متمردّة على القوات المسلحة، لأنها، بموجب القانون المجاز من البرلمان السوداني عام 2017، قوة مساندة للجيش وتتبع له، وليس حزباً سياسياً.
من المنتظر أن تتمسّك قوات الدعم السريع بطرح رؤية تطالب بوقف شامل لإطلاق النار، لتثبيت ما تدّعيه من سيطرة على بعض المواقع الحيوية، مثل القصر الرئاسي والقيادة العامة للقوات المسلحة ومطار الخرطوم والهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون وغيرها. ويرى مراقبون عديدون أن قيادة هذه القوات تريد ألا ينظر إليها على أنها قوة عسكرية فحسب، بل قوة عسكرية سياسية واقتصادية، وهي الوضعية التي كانت تتمتع بها قبل بداية الحرب، وهذا ما لا يمكن للجيش أن يقبله.
الموقع الجيوسياسي للسودان وتركيبته الديمغرافية مهيأة لأن تكون مهبطاً للصراع في الإقليم والقارّة الأفريقية بأكملها
ويرى عسكريون عديدون أن استراتيجية الجيش لا بد أن تتغيّر من حيث التكتيك القتالي، للحفاظ على ما حقّقه من ثمراتٍ وتقدّم في الميدان، وحتى لا تتجاوز المعركة أسبوعها الرابع. ولذلك من المتوقّع أن تشتد وتيرة القتال حول المناطق الحيوية التي تتحصّن بها قوات الدعم السريع، من حيث نوع الأسلحة المستخدمة والتكتيك القتالي، ولو أدّى ذلك إلى خسائر جسيمة، وحتى لا يمنح قوات الدعم السريع وقتاً إضافياً لتجميع صفوفها، وربما وصول مساعدات عسكرية بطرقٍ غير محسوبة أو متوقّعة إلى الجيش. ولعل إرهاصات ذلك بدأت تتشكّل على الأرض بإغلاق الجسور التي تربط العاصمة المثلثة الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان على ضفتي النيلين الأزرق والأبيض ونهر النيل بعد الاقتران في منطقة المقرن، وذلك يمنع قوات الدعم السريع من التخفّي والمناورة والبعد من مرمى نيران القوات المسلحة أو استخدام هذه الجسور للعبور حينما يشتدّ عليها القتال في موقع ما، سيما أن قوات الدعم السريع تعتمد عنصر الحركة السريعة والمباغتة لخفّة الأسلحة التي تحملها وسرعة حركة عربات الدفع الرباعي التي تستخدمها. وبالتالي، تستطيع القوات المسلحة أن تبقيها في جزر معزولة وتضيّق عليها الخناق.
ويتخوّف مراقبون عديدون من أن يصبح السودان منخفضاً تمرّ من خلاله رياح الصراع بين القوى الكبرى (الولايات المتحدة والغرب من جانب وروسيا والصين من جانب آخر) في القارّة الأفريقية في صراع النفوذ والمصالح والأطماع الذي لا يتوقف، لا سيما أن الموقع الجيوسياسي للسودان وتركيبته الديمغرافية مهيأة لأن تكون مهبطاً لهذا الصراع في الإقليم والقارّة الأفريقية بأكملها.
لكلّ ما سبق، ليس من المتوقّع أن تنجز مفاوضات جدّة إذا قدّر أن لها تلتئم أكثر من هدنة إنسانية قصيرة الأجل، عرضة لعدم الالتزام بها، مثل سابقاتها من هدن لا تحقّق هدفها الإنساني المنشود.