مفاتيح لخبرة تدريسية في الخرائط الذهنية والمعرفية
لعلّ موضوع مشروعات النهوض والإصلاح والتغيير يشكل مظلة غاية في الأهمية للتعرف إلى تلك الخرائط الذهنية والمعرفية. ومن المهم التأكيد أن هذه الخرائط لتلك المشروعات النهضوية والإصلاحية والتقييمية إنما تعبّر عن فهم الخريطة والتعرّف إلى أرجائها المختلفة والتعرّف إلى القضايا بكل ما يتعلق بهذه المسألة النهضوية في الفكر العربي، وفي الفكر السياسي العربي على وجه الخصوص. ذلك أن الوقوف على تلك المسالك في هذه الخرائط إنما يشكل فهما ووعيا بحقيقة هذه المشاريع، ويمكن أن تُساهم مع تلك المعلومات التي توفّرت حولها في عملية التقييم والتقويم لمثل هذه المشروعات.
ولعل الأمر الذي يتعلق بالخرائط الذهنية والمعرفية التي درجنا على التعامل معها في هذا جعلتنا نقدّم ما يمكن تسميتها الخرائط المعرفية للاتجاهات الفكرية، وما شابهها من أمراض حوارية، وكذلك ما أشبه من أزمات خطابية. وهنا، توقفنا عند هذه الرحلة بالنسبة لذلك الموضوع، ونستأنف عنده موضوعات أخرى، يمكن أن تستكمل الصورة في تلك الخرائط المتنوعة والمتكاملة للتعرّف إلى تركيب هذه المسالة المعرفية والمشاريع الإصلاحية المتعلقة بها وتعقدهما. ولعل ذلك الأمر في ذلك الموضوع من حيث تتبّعه ومن حيث الحديث عن مثل هذه المستويات المختلفة يجعلنا بشكل أوضح وبشكل أكثر عمقا ودقّة نتعرّف إلى معنى هذه الخرائط ومغزاها، وما تتركه من مآلات على تلك المشاريع الإصلاحية.
وفي هذا المقام، تذكّرت ما قمت به من تدريس في مرحله البكالوريوس لمادة الفكر السياسي العربي، وكنت أسأل، بين عدة أمور، هل الأمر هنا يتعلق بمشروعات فكرية ترتبط بأشخاص سأتعرّض لها، أم أن الأمر أبعد من ذلك بكثير، وأن هناك جملة من التساؤلات والإشكالات الأساسية التي تتعلق بالتفكير في هذه الخرائط التغييرية والإصلاحية والنهضوية. من هذا الباب، فان مطالعة أولية لتلك الكتابات التي تخصصت في موضوع النهضة أو ساهمت فيها أو قدم بعض من هذه النخبة المثقفة والمفكرة لبعض الاجتهادات والتعاملات في المسألة النهضوية هي جديرة، في واقع الأمر، بالتوقف والتبصّر والرصد والدرس. ولعل ذلك يجعلنا نتحدّث عن أكثر من خريطة في هذا الباب المهم الذي بدأنا فيه بقراءة الاتجاهات المختلفة والكتابات المبكّرة التي كتبت عن النهضة العربية في هذا المقام، وما صاحبه من تصنيف لهذه الاتجاهات والإشكالات التي تتعلق بمثل هذه التصنيفات. وربما آن الأوان أن تستكمل دوائر النظر وزوايا الاهتمام المختلفة والمتنوعة بالنسبة لهذه الخرائط، حتى يمكننا أن نتفهم تلك الأجواء والوسط الذي تدور فيه المسألة النهضوية بكل توابعها وكل مآلاتها وكل مقدّماتها ومخرجاتها.
الذين كتبوا في النهضة غالبا ما تعلقوا بحدث أثر عليهم في إثارة هذه القضية وفي بناء الرؤية المتعلقة بها أو في إيراد توقفهم عندها
في حقيقة الأمر، يمكن أن نهتم بجملة من الخرائط المهمة، أولها خريطة المنعطفات التاريخية. ونعني أن الذين كتبوا في النهضة غالبا ما تعلقوا بحدث أثر عليهم في إثارة هذه القضية وفي بناء الرؤية المتعلقة بها أو في إيراد توقفهم عندها، وما ارتبط بها من أحداث مفصلية في التاريخ المعاصر، فهذا يمكن أن يتحدّث عن نكبة 1948 وآخرون يتحدثون عن النكبة والنكسة 1967، وهناك من يذهب إلى أحداث تاريخية مثل سقوط الخلافة العثمانية وإلغاء السلطنة في هذا المقام. وقد يحدّثنا بعضهم عن هذا الحدث المفصلي الجلل الذي ووجهت به مصر بوصفها عنوانا للأمة العربية، وهو حدث "الحملة الفرنسية". ... هذه خريطة المنعطفات وجب رصدها ووجب رصد المغازي التي تتعلق بها وما يمكن أن يتركه ذلك على التفكير في تلك المشروعات النهضوية والإصلاحية والتغييرية.
أما الخرائط الأخرى فهي تتعلق بعالم المفاهيم؛ مفاهيم النهضة، مفاهيم متّسعة متعدّدة معقّدة متشابكة متداخلة، لا يمكن بأي حال إلا أن نقول إن هناك مفاهيم تأسيسية في النهضة، وهناك مفاهيم تابعة للقضايا المتعلقة بهذه النهضة، ومن ثمّ فإن الربط بين عالمي المفاهيم والقضايا من الأمور المهمة في الحديث عن خرائط المفهوم، وكذلك خرائط القضايا أيضا من المسائل المهمة في هذا المقام، الخرائط التي تتعلق بصناعة الأفكار ومسيرة هذه الأفكار وما يمكن تسميته تاريخ الأفكار والدراسة التي تتعلق بعلم اجتماعها وعلوم فلسفتها وكذلك الذاكرة الحضارية المتعلقة بها. هذا من الأمور المهمة، ومن المجالات البحثية المهمة التي ترتبط بخرائط ضمن هذه المسارات والتحوّلات في عالم الأفكار يجب الوقوف عندها ضمن السيرة والمسيرة والسيرة التي تتعلق بجملة هذه الأفكار على تقاطعها وتشابكها.
كذلك، هناك خرائط أخرى تتعلق بخرائط المصادر، في ما يتعلق بمسألة النهضة والإصلاح والتغيير وكيف أن خريطة المصادر وتشابكها أو ما يمكن تسميته شبكة المصادر المرجعية إنما تشكّل دراسة واعية ومبصرة لمثل هذه الأمور التي تتعلق بعلوم المصادر والبحث في ما سُمي جينولوجيا المعرفة. لعل هذه الأمور تتعلق بهذا العالم من القضايا والأفكار والمفاهيم، بل وكذلك تتعلق بالخرائط التي تتعلق بالمنعطفات والتشريح الواجب واللازم لعناصر كامنة في الذاكرة الحضارية، وجب أن نميط اللثام عنها في سياق البصر والتبصرة بمثل هذه الخرائط المعرفية.
لا يمكن بأي حال إلا أن نقول إن هناك مفاهيم تأسيسية في النهضة، وهناك مفاهيم تابعة للقضايا المتعلقة بهذه النهضة
كذلك من أهم الخرائط في هذا الإطار هي الخرائط التي تتعلق بالأسئلة، وخرائط الأسئلة من أهم الأمور التي تطرح في هذا المقام، بل إن بعض الكتب قد اتخذت من السؤال عنوانا لها في هذا المقام والوقوف عند هذه العناوين ومغازيها ومعانيها ومآلاتها أمر في غاية الأهمية، حينما نرصد تلك الخرائط في أشكالها وإشكالاتها وتقاطعاتها. ... خرائط الأسئلة إذا، وخرائط التساؤلات أو ما يمكن تسميتها استراتيجية الأسئلة كما يطرحها أستاذنا حامد ربيع، إنما تعبر عن هم واهتمام، وعن سؤالٍ وجب أن يحدّد، وإجابة يجب أن تطلب. وفي هذا المقام، هذه الخرائط التي تتعلق بتلك الأسئلة المحورية التي طرحت ضمن هذا الموضوع، وتلك المسألة المهمة التي تتعلق بالنهوض والتغيير، إنما تشكّل أسئلة مهمة يجب أن نتوقف عندها، ويجب أن نتعرّف إلى مبانيها وإلى أهميتها وإلى الأهمية التي تتعلق بموضعها ومكانتها، وكذلك إلى الإجابات المختلفة التي تصدر من هنا أو من هناك، أو من اتجاه هنا أو من هناك، أو من مدرسة هنا أو هناك، في هذا المقام.
رصد الخرائط المهمة التي تتعلق بمداخل التحليل، وكذلك بمداخل التفسير، بالنسبة للقضايا والإشكالات النهضوية من الأمور الأساسية التي يجب أن نتوقف عندها وعليها، ذلك أن هذه الخرائط المتعلقة بمداخل التحليل ومداخل التفسير إنما تجعل من تبنّي صاحبها ضمن مدرسته الفكرية نماذج تفسيرية ونماذج تحليلية من الأهمية بمكان أن نتوقّف عندها توقّفا أساسيا نحاول تفحّص مثل هذه المداخل، لأن ذلك يرصد لنا مجموعة من الكتابات غلبت عليها هذه المداخل في التفسير والتحليل. وبصرف النظر عما إذا كانت هذه المداخل فعّالة أو ناجعة. وفي الحقيقه يشكّل رصد هذه الخرائط استدلالا مهما وقراءات تأسيسية للخطاب العربي عن النهضة وعلى مناهج التفكير في مثل هذه المسائل النهضوية، وكذلك المناهج التي تتعلق بالتدبير، فضلا عما يقدّم من حلول لتلك الإشكالات التي تتعلق بهذا ضمن مسارات تحليل ومسارات تفسير معتبرة في هذا السياق.
ومن المسائل المهمة في هذا السياق الخرائط التي تتعلق بخرائط المشروعات الحضارية. صنوف متعدّدة ومستويات متنوعة لا يمكن إطلاقا مثلا أن نساوي بين مشروعي المؤسّسة والأفراد. ولا يمكن، في هذا الخطاب، أن نحاكم مشروع المؤسّسة بوصفه فرديا، ولا أن نحاكم المشروع الفردي والاجتهادات الفردية ضمن معايير مؤسّسية، لا بد أيضا أن نتدبّر أمورنا في مشاريع يغلب عليها الطابع الحركي، ومشاريع يغلب عليها الطابع الفكري ... هذه الأمور مهمة في الرصد، والبحث والدراسة والتحليل.
مسائل الحوار بين الأفكار ضمن هذه المسألة النهضوية والرؤى المختلفة المتعلقة بالاجتهاد ضمن خيارات ومسارات أساسية من الأمور الواجب أن نتوقّف عندها
كذلك، هناك خريطة تتعلق بخريطة الحوار، فمسائل الحوار بين الأفكار ضمن هذه المسألة النهضوية والرؤى المختلفة المتعلقة بالاجتهاد ضمن خيارات ومسارات أساسية من الأمور الواجب أن نتوقّف عندها وعليها بحكمة وبصيرة، بوعي وتقييم وتقويم غاية في الأهمية، لأن هذا البعد الذي يتعلق بالحوارات يكشف ما لا يمكن إلا كشفه من خلال تلك التفاعلات الخطابية والحوارية بين الاتجاهات المختلفة، وهو أمر انتبهت إليه بعض هذه المؤسّسات في الطباعة والنشر، فجعلت ضمن مشاريعها صناعة هذه الحوارات بشكل أو بآخر، وكذلك ما يمكن تسميته تنظيم الندوات، لأن الندوات كانت تمثل أهم معامل الحوارات حول الأفكار. وهنا تشكّل هذه الأمور التي تتعلق بجملة التفاعلات الفكرية وكذلك النشاطات الحركية والفعاليات الأكاديمية والعلمية والبحثية خريطة تابعة من التفاعلات والتقاطعات المهمة التي علينا أن نتوقّف عندها في هذا المقام.
وهنا، الخرائط أيضا التي تتعلق بالوسط، سواء أكانت الأبعاد العالمية في المشاريع النهضوية والأبعاد الداخلية والمحلية، وكذلك الأبعاد الإقليمية، هي من الأمور الغاية في الأهمية التي تتعلق بالوسط الحاضن لذلك الخطاب بشأن تلك المشروعات الحضارية وتلك المشروعات النهضوية. ومن غير التعرّف إلى هذه البيئة التي انطلقت واستنفرت فيها عوالم الأفكار والحوارات والتفاعلات الفكرية المختلفة والحركية في ميدان النهضة والإصلاح والتغيير، لا يمكننا أن نهمل هذا الوسط الذي كان مؤثّرا بشكل كبير، ولا يمكن بأي حال إغفال هذا الوسط أو المناخ الحاضن مثل هذه الأفكار النهضوية والتغييرية والإصلاحية.
تدور بنا الأمور وتتسع الدوائر وتتنوع الخرائط وكل هذه الأمور. اتخذنا من خرائط الاتجاهات مدخلا، ونثني بخرائط أخرى واجبة التأمل وواجبة التبصر، والتوقف عند بعض معانيها ومغازيها ومآلاتها، فهذا المقال إنما يعبر عن خبرة بحثية وخبرة تدريسية قمت بها وعليها، بشكل أو بآخر، شاركت فيها بسهم وافر. وأريد في هذا المقام أن أقدم بعض هذه الأمور التي تتعلق بعلوم الخرائط تلك في تنوعها هذا، وفي تقاطعها ذاك، وفي تفاعلاتها تلك. إنها أمور غاية في الأهمية، حينما نواصل البحث والعمل والفحص والدرس في كل تلك القضايا وكل تلك الخرائط، فإذا استوعبنا تلك الخرائط بمقاييس رسم مناسبة للتعرّف إلى مسارات الخطاب والحوارات والقضايا والمفاهيم والمصادر والأسئلة، فإننا بذلك نكون قد استوعبنا تلك المسألة النهضوية، بمقدّماتها وتوابعها، بمعطياتها ومخرجاتها، بتقديمها وتقويمها، أنه عملٌ غاية في الأهمية، ثم يمكننا أن نتعامل مع عملية البناء عن بصر وبصيرة، ونتعامل مع قضية التحدّيات على بصيرة وعلى هدى، وأن نتعامل مع قضية العقبات التي تحول وتقيم كثيرا من العثرات وتصادف مزيدا من المعلومات فنتعامل معها التعامل المطلوب، بعلم ومنهج ونظر عميق ومدخل دقيق.