معركة الكرامة والعزّة: لحظة كاشفة فارقة

13 أكتوبر 2023
+ الخط -

كتب المستشار طارق البشري في مقالته "من أيام العرب: 11 أيلول/ سبتمبر 2001 أم 28 أيلول/ سبتمبر 2000؟" تعليقا على الانتفاضة الثانية عام 2000، أن "ما يحدث اليوم في فلسطين سيتحدّد به مصير الأمة العربية لمرحلة تاريخية لا أعرف منتهاها"، وهو ما ينطبق اليوم على معركة "طوفان الأقصى"، خصوصا وأن هذه العملية هي الامتداد الطبيعي للانتفاضات الفلسطينية، وأن من يحملون السلاح اليوم ويواجهون الإسرائيليين في قلب الأراضي المحتلة، وخلف حدود العدو، هم أطفال الحجارة وأبناء تلك الانتفاضة، كما أنه يظلّ المشكل الذي رآه البشري كما أن "المشكل المهم في ظني، الذي أثارته ولا تزال تثيره انتفاضة الأقصى في 28 أيلول/ سبتمبر 2000 يتعلق بالعلاقة بين الأمة والدولة في نظمنا العربية المعاصرة؛ أي العلاقة بين الموقف الشعبي والموقف الرسمي".

"طوفان الأقصى" هو التطوّر الأساسي والإدراك الحضاري لطبيعة الصراع العربي الصهيوني وللمقاومة العربية لهذا المشروع الصهيوني التي انطلقت بشكل شعبي في سنتي 1947 و1948، والتي تطوّرت عبر السنوات، وكانت الانتفاضة الأولى عام 1987، وعزّزتها الثانية في سبتمبر/ أيلول 2000، والمقاومة الفلسطينية اليومية الممتدّة المبدعة التي لا تتوقف عن إبداع الأفكار المقاومة من الحجر إلى السكين إلى الدهس التي تُثخن العدو وتوقِع في قلبه الرعب، وصولا إلى عمليات طوفان الأقصى التي أوقعت الهزيمة بالكيان الصهيوني وتعاليه وعنجهيّته. ولعل ردّ فعله العنيف، والمدعوم بالكامل من الولايات المتحدة على وجه الخصوص والعالم الغربي، دليل على حالة الذلّ التي شعر بها والمفاجأة غير المسبوقة التي تعرّض لها، فبات يضرب يمنةً ويسرى وشرقا وغربا في قطاع غزّة، يقصف الشيخ الكبير والطفل الصغير والمرأة التي تحرُس أطفالها وتحتضنهم، فما بعد الطوفان لن يكون كما كان قبله، لا يمكن أن يطمئن أيّ صهيوني يعيش على الحدود مع غزّة أو لبنان، في مستوطناتٍ اصطنعها العدو لقضم الأرض وفرض أمر واقع، ولكنها تُخلى الآن قسرا ورعبا.

لقد أسقطت "طوفان الأقصى" أسطورة جيش الكيان الصهيوني بأنه لا يُقهر، وهي الأسطورة التي حاول الكيان إقناع العالم بتصديقها، وانتهى به الأمر أن يصدّقها هو نفسه. ولكن ما هي إلا سويعات قليلة وانهارت هذه الأسطورة على أيدي أبطال المقاومة، معتصمين بالإيمان وبعزيمتهم التي لا تُقهر. سيكون ما فعلته المقاومة الفلسطينية ملهما لكل ذي لبّ، ستتغير معادلة الصراع العربي الصهيوني بعد هذه المعركة، فمع أهمية حرب أكتوبر (1973) إلا أن أهدافها العسكرية كانت محدودة، لا تتعلق بمسألة التحرير أكثر ما تتعلق بمسألة التحريك. ومن هنا، كان الأمر الذي يتعلق بالتعامل السياسي مع ذلك الانتصار كان تعاملا متهاونا لا يقدّم ولا يكافئ الحدث الذي يتعلق بما جرى في الحرب، وما كان يمكن أن يترتّب على هذا الانتصار من نتائج، خصوصا في ظل الموقف العربي المشرّف، وخصوصا استخدام سلاح البترول العربي، إلا أن "طوفان الأقصى" تعيد لنا الفرصة لمعظم مكاسبنا ونُحسن الاستفادة من نصر المقاومة الفلسطينية العسكري الجديد بعد مضي خمسين عاما على نصرنا العسكري الأول؛ فاكتملت صورة النصر واستثماره في دحر العدو وفضّ أوهامه والقضاء على أساطيره، وبات لا يملك إلا الانتقام من مدنيي غزّة.

علينا أن نضع "طوفان الأقصى" في مسارها الطبيعي استكمالاً لمشهد الانتفاضات الفلسطينية، وهي من المعارك المهمة والفاصلة، سيكون لها أثر استراتيجي كبير في تشكيل المنطقة

علينا أن نضع "طوفان الأقصى" في مسارها الطبيعي باعتبارها استكمالاً لمشهد الانتفاضات الفلسطينية، وهي من المعارك المهمة والفاصلة، والتي سيكون لها أثر استراتيجي كبير في تشكيل المنطقة والمشروعات الأخرى التي تتعلق بصفقة القرن، والمشروعات التطبيعية التي تتعلق بتهافت المتصهينين العرب على عتبات إسرائيل. ومن هنا، علينا أن نعمل على دعم المسار السياسي الموازي لهذه العملية وتمكينه، ولن يكون ذلك ممكناً من دون الدعم الذي يتعلق بالأمة الحاضنة للمقاومة الفلسطينية على تنوّعها وبكل امتداداتها. ونقول هنا إن المقاومة ليست فقط عملا عسكريا ولكنها عمل انتفاضي مواتٍ في كل الساحات الفلسطينية؛ في الضفة الغربية والقدس وعرب 48، لتشمل كامل تراب فلسطين ضمن ما تؤكّده المقاومة دوما من وحدة الساحات، بل لا يمكننا أن نستثني أمة العرب بشعوبها التي يمكن أن تضغط على أنظمتها المتخاذلة والمهترئة في أن تقوم بدور يحفظ ماء الوجه بالنسبة للمقاومة، ذلك أننا الآن في موقفٍ فارقٍ وجب علينا أن نكون فيه على مستوى هذا الصراع، باعتباره صراعا مصيريا حضاريا، وما تركه هذا الحدث الاستراتيجي من آثار تغيّر طبيعة المعادلة في مسار الصراع العربي الصهيوني في هذا المقام.

ردّ الفعل الإسرائيلي المدعوم من النظام الدولي والصمت المطبق من الأنظمة العربية في بيت الطاعة الأميركي عنه وصعود خطاب المتصهينين العرب لن يقلل من انتصارنا في "طوفان الأقصى"، ولن يزحزح أبطال المقاومة من كل الفصائل الفلسطينية عن تحقيق هدفهم الأساسي، وهو التحرير. وقد يقول قائل إن ما تقوم به إسرائيل شديد العنف والخطورة على الوجود الفلسطيني نفسه في غزّة، ولا يقلل صاحب هذه المقالة من خطورة هذا الإجرام الذي وُصف بأنه جرائم حرب حقيقية، خصوصا وأن الكيان الصهيوني هو آخر بؤرة استيطانية في العالم، لكن الأهم أن نتيقن من أن هذا الحال سينتهي بهزيمة إسرائيل. ولنتذكّر سياسة تكسير العظام التي اتبعتها إسرائيل في انتفاضة الحجارة، وعن ماذا أسفرت، فقد أسفرت عن "طوفان الأقصى" الذي أقضّ مضاجع الكيان الصهيوني وداعميه، وأسال منهم الدماء وقذف في قلوبهم الرعب والحسرة والفشل.

معركة طوفان الأقصى تستحقّ أن تكون منعطفاً تاريخياً في مواجهة الكيان الصهيوني والصهيونية العالمية والمتصهينين العرب

ومن ثم، حتى يتحقّق الانتصار، من الواجب توسيع أدوات المقاومة وتوظيفها بكل مستوياتها وفضح ممارسات العدو، مستثمرين كل أنواع الحرب عليه المادية والنفسية، والدعوة إلى المعاونة من أوجب واجبات الوقت، فلا يتهاون بها أحد، وأن قوة الإيمان والإرادة الحافزة للنفسية العالية عامل قويٌّ لا يمكن إغفاله أو التهوين منه، وأن الحصار العربي لغزّة سيظل وصمة عار تلطخ جبين أصحابه، ويجب أن تتّجه إليه المواقف الحاسمة والخطابات الضاغطة والمحاولات المؤثرة لفكّ الحصار، ذلك أن حصار المستضعفين أمام المستكبرين غاية النذالة والخسّة والدناءة. وإذا كان المحاصر مظلوما، وذلك لمصلحة ظالم مستكبر وغاصب للأرض والعرض، فإن الحكم معروف لا مواربة فيه.

هذا الحدث الكبير والعظيم في تاريخ الأمة باعتباره غير مسبوق يكمل نصر أكتوبر قبل 50 عاما، وينتظم في سلسلة أعمال المقاومة والانتفاضات الفلسطينية المختلفة، ويتدافع مع الكيان الصهيوني على الأرض المحتلة أول مرة بما يشكّل أمرا غير مسبوق، وقد أثخن العدو ولا يزال بإصابات مباشرة ليس فقط في جنوده، ولكن في مستوطنيه أيضا، ليؤكّد أن الاستيطان عمل إجرامي، يقوم به الكيان الصهيوني في محاولة قضم الأرض الفلسطينية قطعةً بعد أخرى. الذين يهربون حاليا من المستوطنات، ويتشبثون بجنسياتهم الأخرى، يؤكّدون، في حقيقة الأمر، أن بيوتهم في أماكن مستوطناتهم أوهن من بيت العنكبوت. ومن ثم، أدّت هذه المعركة جملة من الرسائل، يعرفها القاصي والداني، والصديق قبل العدو، ليتأكّد أن معركة طوفان الأقصى تستحقّ أن تكون منعطفا تاريخيا في مواجهة الكيان الصهيوني والصهيونية العالمية والمتصهينين العرب.

هذه المواجهة الكبرى التي صارت تعبّر عن ضمير هذه الأمة الحي، لتؤكّد على هذا المنحى الذي يشكل منعطفا تاريخيا، ولا يقولنّ أحد إن هذا أمرٌ يتعلق بفلسطين فحسب، إنه منعطف إنساني حضاري علمي بامتياز، يتّضح فيه جليا، حتى هؤلاء الذين كانت إسرائيل صنيعتهم ولماذا يدعمونها. واتضح، في الوقت نفسه، مسار المقاومة الذي لا يهادن، والذي يجعل من أهدافه تحرير فلسطين. ويشكل هذان الأمران منعطفا تاريخيا عالميا لا يمكن إلا أن نشير إليه بالبنان، ونؤكد على قدرة هذا المسار وفاعليته في بناء رؤية جديدة وتصوّر لعالم العرب وعالم المسلمين وعالم الخصوم والأعداء.

ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".