معركة الأكثر إخلاصاً لإسرائيل
هل مرّ يومٌ على قطاع غزّة من دون 20 شهيداً فلسطينيًّاً على الأقل؟... نحن الآن في نهايةِ الأسبوع الثاني من الشهر الثاني عشر من العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني، تقريبًا 45 أسبوعاً مع حصيلة تتجاوز 41 ألف شهيد، أكثر من ثلثهم من الأطفال، بمعدّل نحو 915 شهيدًا في الأسبوع الواحد، أو 130 شهيدًا في اليوم.
يذكر الإعلام العربي هذه الأرقام بشكلٍ يومي، روتيني بارد، كما يذكر أسعار الأسهم في البورصات العالميّة أو درجات الحرارة أو حصيلة الدوريات الأوروبية، فيما يتوقّف الإعلام نفسه طويلًا عند أسرى الاحتلال لدى المقاومة الذين باتت مسألة استعادتهم الشغل الشاغل لدبلوماسيّة الوساطة الأميركية ذات الجناحين العربيين.
لم يتوقّف أحد ليسأل نفسه كيف يكون الأميركي قائدًا لعمليّة الوساطة، أو حتى وسيطًا هاديًا وهو منخرط في العدوان الإسرائيلي، عسكريًاً واقتصاديًاً وسياسيّاً، ينشر مدمّراته وحاملات طائراته في المياه العربية من أجل حماية العدوان الإسرائيلي، ويفتح مخازن أسلحته له، يغرف منها ما يريد، ويستعمل قوّته الدبلوماسيّة على أوسع نطاق في الهيئات الدوليّة والأمميّة لإحباطِ أيّ جهدٍ دولي يجرّم المعتدي أو يلزمه بوقف عدوانه ويعاقبه عليه؟
كيف يمكن أن يستوعب العقل أنّ لدى إدارة بايدن أو غيرها الرغبة والقدرة لوقف العدوان الإسرائيلي، بينما السباق على رئاسة الولايات المتحدة يدور على قاعدة التنافس على من يحبّ إسرائيل أكثر، ومن يستطيع خدمتها والدفاع عن تفوّقها العسكري وإخضاع منطقة الشرق الأوسط لها؟
في المناظرةِ أخيراً بين نائبة بايدن ومرشّحة الحزب الديمقراطي كامالا هاريس، ومرشّح الحزب الجمهوري دونالد ترامب، كان موضوع النزال هو من الأشدّ ولاءً لإسرائيل والأقدر على تأمينها والدفاع عن وجودها، مع اختلافاتٍ أسلوبيّةٍ بين المتسابقين، إذ عبّرت هاريس عن حبٍّ ناعمٍ وهادئ، فيما حاول ترامب إظهار نوع من الغرام المُشتعل والصريح بتل أبيب، وكلّ منهما يتهم الآخر بأنّ طريقته في الحبّ تضرّ بمصلحة الكيان الصهيوني، ويناضل من أجل إثبات أنّ طريقته هي الأمثل في الحبِّ الأميركي الاستراتيجي له.
الشاهد أنّ نعومة الديمقراطيين، ممثّلة في السيّدة الضاحكة هاريس لا تقلّ خطورة عن خشونة الرجل المهرّج العابس ترامب، فالثابت تاريخيًاً أنّ لدى الإدارة الأميركية ثابت استراتيجي لا يتبدّل بعيداً عن لعبة الكراسي الموسيقية بين الحمر والزرق، هذا الثابت هو مصلحة إسرائيل، وعلى ذلك يدور التنافس. وكما قلت قبيل طوفان الأقصى، ما يحمله بايدن في حقيبته للشرق الأوسط، ومحوره صفقة تطبيع سعودي إسرائيلي، أكثر كارثيّة على القضيّة الفلسطينية ممّا ورد في صفقة القرن التي أعلنها ترامب قبل سنوات، إذ كان مشروع الأخير يشتمل على ظلالٍ باهتة لجغرافيا سياسيّة فلسطينية لا ترقى إلى مستوى الدولة، بينما كان مشروع بايدن خلوًّا من هذه الظلال، مكتفيًا بتحسين ظروف حياة الفلسطينيين في كنف الاحتلال.
المواقف والأمثلة عديدة على انتفاء التباينات بين الجمهوريين والديمقراطيين فيما يخصّ الشراكة الاستراتيجية الكاملة في العدوان الإسرائيلي، بل ربّما كان الديمقراطي أكثر وقاحة في تبني الاحتلال، ويمكن العودة هنا إلى الأيّام الأولى من إدارة بايدن، واختياره أنتوني بلينكن وزيرًا للخارجية، والذي أظهر منذ اليوم الأوّل أنّه يتفوّق في دعم الكيان الصهيوني، على دونالد ترامب شخصيًاً، إذ إنّ الأخير كان يفعلها من منطلقاتٍ براغماتيّة وتجارية، قبل أن تكون تعبيراً عن عقيدة وانتماء فكري، فيما وزير الخارجية الجديد يفاخر بأنّه من "رجال أمن إسرائيل"! وبنصّ تعبيره في تغريدةٍ له قبل ست سنوات من عمله ضمن موظفي إدارة أوباما "إذا نظرنا للسنوات الثماني الماضية أشعر بالفخر لخدمة رئيس (باراك أوباما) قدمت إدارته لأمن إسرائيل أكثر من أيّ وقت مضى".
بلينكن الآن هو ممثّل الوساطة الأميركية نظريًّا، لكنه عمليًاً هو ذلك الجندي اليهودي الحارس لأمن إسرائيل، لكنّ هذا كلّه لا يلفت نظر المكوّن العربي في أسطول الوساطة الأميركية، ولا يدفع أحدًا لمراجعة حصيلة أحد عشر شهراً من التوسّط الذي لا يقدّم شيئًا يُوقف المحرقة الإسرائيلية، أو يجعل قضيّة أكثر من 41 ألف شهيد فلسطيني هي الأولى بالنضال السياسي من مسألة حفنة من الأسرى المحتلين، وهو النضال الذي يأخذ طوراً مُخجلاً، في تزامنٍ عجيب مع اشتعال المنافسة الانتخابية الأميركية على لقب الأغزر حبًا لإسرائيل.