مظاهرات السودان .. أزمة الدولة والثورة
خرج السودانيون في 30 الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، في مظاهرات تدعو إلى إسقاط الحكومة، احتجاجا على تردّي الأوضاع الاقتصادية، وتصدّر الدعوة إلى الاحتجاج الحزب الشيوعي السوداني وتجمّع المهنيين ومجموعات شبابية من لجان المقاومة، بجانب كوادر محسوبة على حزب المؤتمر الوطني. وعلى الرغم من تنوع هؤلاء، إلا أن كتلة المستجيبين، تجمع بين معظمها صعوبة سبل العيش، مع اتساع نطاق الأزمة الاقتصادية. كما أن لدى قوى الثورة الداعية إلى الاحتجاج أهدافها التي لم يتحقق أبسطها بعد مرور عامين، غير استنتاج كتل شبابية شعبية أن الحكومة تخاصم مطالب الثورة وشعاراتها. وهناك بطء وتوجس من مواجهة الفساد وقوى سرقت ثروات البلاد، وعدم إنجاز في ملف استرداد الأموال المنهوبة (ملف لم تنجح فيه لا مصر ولا تونس)، بالإضافة إلى المطالبة بمحاسبة عادلة لمجرمين وقتلة الثوار وقت المظاهرات والاعتصامات، ومنها الاعتصام أمام مبنى القيادة العامة للجيش في الخرطوم، غير جرائم ارتكبها نظام البشير، منها التعذيب في بيوت الأشباح، وجرائم حرب خاصة في دارفور، نموذجا دالا.
والمتأمل للمشهد يجد أن جزءا من الإخفاق، خصوصا في عملية المحاسبة وملف العدالة الانتقالية، يرتبط بورثة البشير في مكونات السلطة، وبقاء متنفّذين ورجال مال في المشهد الجديد، أي أن مضمون الحكم لم يختلف، على الرغم من اختلاف الأطر السياسية الحاكمة، وحدوث تعديلاتٍ طفيفةٍ في السياسة الخارجية، وكسب مساحاتٍ من حرية الحركة والتنظيم.
يعد مسار التظاهرات وشعاراتها وقواها الاجتماعية وتاريخها وممارستها أداة مهمة في تحليل توجهات الحراك وأهدافه
وحالة الأزمة العميقة التي يمر بها السودان، والتي يمكن تلمّسها من خلال المظاهرات أخيرا، وردود الفعل حولها، يمكن إجمالها في عدة مشاهد مترابطة. الأول ما يخصّ قوى ثورة تفتتت، لا تستطيع الاتفاق على مسار مشترك، ما ينتج حالة فوضى وصراعات سياسية، ومعها لا يمكن الضغط على هياكل السلطة لإقرار (وتنفيذ) سياساتٍ تحقق ما سعت إليه مكونات الثورة من أطياف واسعة. وبعضها اليوم رهينة صراعات شكلية وتجاذب وخلافات أساسها كسب مواقع اتخاذ القرار، وتظهر حالة التشظّي بين مكوناتها كأمر كان مستبعدا، قياسا بما بذلته في فترة سابقة، وقبل الثورة بسنوات طويلة، حين أصدرت أوراق وبرامج مرحلة ما بعد البشير، منها ثلاثة مهمة: ميثاق الفجر الجديد، ونداء السودان، غير إعلان قوى الحرية والتغيير الذي تبلور مع الثورة. أما المشهد الثاني فيرتبط بحكومة لم تف بوعودها، وأظهرت ضعفا في اختبار الإدارة، وضمت أشخاصا كشف أداؤهم عن كفاءة محدودة، بعضهم جاء نتاج محاصصةٍ سياسية بين المكونات المدنية، ولم تغب عنها تأثيرات المكون العسكري. هذا على الرغم مما يتمتع به رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك من خبرات ومعرفة وقدرة على توجيه الخطاب والتفاوض. أما المشهد الثالث فيرتبط ببنية الدولة وآثار صراعات وحروب، ومظاهر عنف ظاهر في الولايات، ما يشبه تفكّكا للإدارة، وتيها في اتخاذ القرار السياسي، إلى درجة أن ينشر ويتم تداول أخبار عن طائرة تضم وفدا من المخابرات الإسرائيلية يعقد لقاء مع نائب رئيس مجلس السيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، من دون علم رئيس المجلس عبد الفتاح البرهان، وحمدوك! ويرتبط المشهد الرابع بأزمة اقتصادية عميقة، ترتبط بضعف الموارد والتمويل وبنية اقتصادية هشّة، من أجل تجاوزها يتم تطبيق الإصلاح الاقتصادي، المرتكز على تخفيف الدعم الموجه إلى السلع والخدمات، بما يحمّل فئات شعبية تعاني أصلا من أزمةٍ شديدة، سبقت الثورة، بل وكانت أحد أسبابها الرئيسية، أعباء جديدة، في ظل مؤشراتٍ على ارتفاع نسبة الفقر إلى 60%، ونسبة بطالة مرتفعة بين الشباب، في ظل انكماش اقتصادي، وصعوبة إنعاش اقتصادٍ يفتقد الموارد الضرورية، كما لم يلق، على الرغم من الوعود، عونا عربيا أو دوليا. وتترتّب على الأزمة الاقتصادية أوضاع اجتماعية خطرة تطاول الجميع. وكان أفراد من الشرطة السودانية قد أعلنوا، قبل مظاهرات 30 يونيو، الاحتجاج، وهدد بعضُهم بالإضراب عن العمل. واليوم يعاني مزارعون من ارتفاع أسعار الإنتاج وتكاليفه، مع ارتفاعات غير مسبوقة لمجمل الأسعار. ومن المتوقع أن يستمر برنامج الإصلاح الاقتصادي سنوات، بما فيه رفع الدعم، بعد اشتراطات صندوق النقد الدولي ووعود تخفيف الديون وإقراض الخرطوم 5. 2 مليار دولار.
وهذا يوجِد القابلية للاحتجاج شعبيا، وإن كانت المشاركة في المظاهرات أخيرا ضعيفة، فإن ذلك لا يعني رضىً عن أحوال تستدعي الاحتجاج والتفجر، وربما سيناريو آخر من الفوضىى. ولذلك لغة تسفيه الاحتجاج وأسبابه ومكوناته، في مقالات كثيرة في الصحف السودانية، مستغربة، خصوصا التي لا ترى فيها غير تعبيرٍ عن ثورةٍ مضادّة يقودها حزب البشير وحشد المتظاهرين بساندويتشات "الطحينية". كما لا يمكن أن يُحسب كوادر الحزب الشيوعي، ذي التاريخ الطويل، وهم الراكزون في مناهضة الاستبداد، والذين قدّموا تضحيات ضخمة في مواجهة النظام السابق، أنهم جزء من ثورة مضادّة أو يصطفون مع سلطة عمر البشير.
إذا كانت المشاركة في المظاهرات أخيراً ضعيفة، فذلك لا يعنى رضىً عن أحوال تستدعي الاحتجاج والتفجّر
بالإضافة إلى ذلك، يعد مسار التظاهرات وشعاراتها وقواها الاجتماعية وتاريخها وممارستها أداة مهمة في تحليل توجهات الحراك وأهدافه. ومع التسليم بأن التظاهرات ليست عملا مقدّسا أو ثوريا في حد ذاته، وأنها أداةٌ للاحتجاج يمكن أن تستخدمها وتستثمرها كل القوى السياسية لصالحها، تقوي صفوفها، وتضعف السلطة في آلية تفاعل وتفاوض دائميْن، وأداة ديمقراطية تتعاظم أهميتها، حين لا تكون هناك قوى منتخبة. وفي كل الأحوال، ومن فضائل الديمقراطية الناشئة في السودان، على الرغم من عثرتها، وتونس على الرغم من مخاضها الطويل، أنها انتزعت الحق في استخدام أدوات التعبير والتنظيم وسيولة وحرية الحركة، وهو نتاج معادلة الثورة وإيجابياتها، والتي حرمت منها دول الثورات المغدورة.
لذا يمكن رؤية مظاهرات 30 يونيو في سياقات ثلاثة مترابطة: أزمة الدولة والثورة، وأحوال الاقتصاد، وما يترتب عليه من أزمة قطاعات شعبية تزداد معاناتها، وتسعى إلى دفع الحكومة لمراجعة سياستها، ويُرفع شعار إسقاط الحكومة لتغير السياسات، وليس لنفي الثورة ومسارها السياسي، كما يظهر تنوّع خرائط التظاهرات ومطالب المحتجين وشعاراتهم، غياب تمثيل حقيقي لهؤلاء في بنى السلطة وهياكلها، وإن كانت شعارات إقرار العدالة وتوفير الأمن والخدمات هي الغالبة.