مصنع الأشباه
احتضن الشّاعر البرتغالي، فرناندو بيسوّا، خلال حياته القصيرة، 127 شخصية متناقضة داخل جسده النّحيل. ما جمعها أنها كانت كلها لكُتّابٍ لهم أساليبهم ولغاتهم المختلفة، فوقّع الشعراء سُّكان جسده القصائد والرّسائل والمقالات والكتب بأسمائهم. وانتقد بعضهم بيسوّا بحدّة، لكنّه لم يتخلّ عنهم. وأثارت ظاهرة تعّدد الشخصيات المدهشة داخل بيسوّا فضول الباحثين، فاجتهدوا في التّنقيب عنها وحصرها. لكن الآراء اختلفت بشأن عددها. وأقصى رقم لها، وصل إليه الكاتب البرازيلي جوزي باولو كاڤالكانتي في تحقيق طويل عن "شخص حلم بأنه كان متعدّداً" عام 2010، كان 127 شخصيّة.
المُدهش في حالة بيسوّا هي الصّعوبة التي يُمثلها تحدّي تعايش الشّخصيات داخله، وتفادي الجنون الذي تقود إليه، فليس من السّهل أن يعيش المرء بشخصياتٍ متعدّدة، رغم أنّ معظم الناس يُقرّون أن هناك شخصين على الأقل داخلهم، وهو اعتقاد راسخ في الثقافة الشّعبية، ففي المغرب لطالما تحدّث الناس عن شخصٍ له "زُوجْ رْيُوسْ"، أي له رأسان. لكن المقصود بهذا التعبير لم يكن أبداً هذا البعد العميق من الوجود داخل الإنسان، بل هي فقط صورة مجازية للحيرة بين خيارين. غير ذلك، ما عُرف وجود تعدّد في شخص إلّا اعتُبر ذلك حالة من انفصام الشخصية. فلا يُعقل، في نظر الطّبيعة البشرية التي حدّد الإنسان نطاقها منذ اكتشافه نعمة التّفكير، أن تتعدّد الشّخصيات داخل الإنسان الواحد.
بدلاً من ذلك، سعى الّإنسان إلى التشابه أكثر من التعدّد، فالحروب والصّراعات والنّزاعات تقوم من أجل فرض الرّأي الواحد، رأي الذين يخافون من الآخر إذا لم يُشبههم. لذا روّجوا بقوة فكرة حاجة الإنسان بطبيعته إلى الجماعة، ليس ليكون مختلفاً داخلها، بل ليجد راحته النّفسية في التّشابه والتّطابق مع الآخرين بدل الاختلاف المرهق.
عن التعدّد، نستعيد ما قاله الكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو: "مبدأ التعدّدية يسمح برؤية العالم كشبكة علاقات"؛ ضمن رحلة إدراك ما في التعدّد من غنى، وكيف أنّ "في الاختلاف رحمة"، كما ورد في الحديث النبوي، فالتعدّد هو الأكثر إنتاجاً وملاءمة للإنسان العاقل، على عكس النّمط الواحد، الذي يُحوّل الناس إلى قطعانٍ تضمّ الأشخاص باختلاف عقولهم ووضعياتهم وإمكاناتهم، طوعاً أو كرهاً، لأنّ المجتمع يريد ذلك، ليحافظ على بِنيته التي تفترض سيطرة فئة واحدة. كنتُ أشاهد فيديو عن تفريخ الدّجاج في مصنع متخصّص، حيث يتمّ توفير كل ما تحتاجه الفراخ لتفقس. ثم تُكركب هذه الكائنات الصّفراء الغرّة في عمود، لتستقرّ في علبٍ يتكدّس فيها عشرات منها.
لا أدري لماذا تذكّرتُ كل ما قرأته عن السّجون المكدّسة للأنظمة المستبدّة التي ترمي فيها معارضيها مثل فراخٍ معيبة، وتنتظر موتها في العلب، جوعاً أو مرضاً أو اختناقاً من الازدحام في القفص. الفرق أنهم في مزرعة الأفراخ يقذفون الفراخ المعيبة في علبٍ خاصةٍ لإراحتها من وجودها العدمي بسرعة، على عكس ما تفعله الدكتاتوريات. ويُعتبر الفرخ معيباً إذا فُقس أعرج، أو أعور، أو من يدري ماذا تُنجب الآلات الحاضنة أو الآلات البشرية من عجب، قد يكون له معنى، أو لعلّه بلا معنى على الإطلاق. لكن من الكامل هناك أو هنا؟ ما الفريد وما المعتاد؟ ما العادي وما النشاز؟
في حياة بيسوّا أمثلة عديدة للاختلاف ولحيرة المُختلِفين؛ فقد كان ضائعاً في المكان والزّمان، يعيش حياته وحياة الآخرين في الأوقات كلّها، لكن هذا الآخر لم يكن أحداً سواه. لهذا ينسى نفسه وسطهم، وينجو من شجع أنانيته. بينما تجد أنّ الأشباه الذين يمتثلون لقانون القطيع يصرّون على فرادتهم وسموّهم عن الآخرين، إمّا بأصولهم، أو مذاهبهم، أو لكونهم في حدّ ذاتهم فلتات زمانهم. لكن حتى لو صنعت ماكينة التّفريخ بين الحين والآخر فَرّوجاً مبهراً في كمال صفاته ووفرة لحمه، فإنّه يبقى أحد الكائنات الدّجاجية لا غير. ليس لأنّ الاختلاف كان في المصدر وليس بفعل اختيار لاحق، أو اجتهاد للسّير خارج قلق الدّجاجات وصياح الدّيوك، بل لأنّ الكائن مهما تشابه أو اختلف فهو، في النهاية، لن يعبر حدوده البيولوجية، وكل ما يستطيع هو تكثيف وعيه ضمنها.