مصر 2023 ... الأصول مقابل الديون

10 يناير 2023

(محمد عبلة)

+ الخط -

يأتي عام 2023 وأكبر دولة في الشرق الأوسط والمنطقة تعاني من أزمات حادّة لم تعهدها من قبل. تتعدّد تلك الأزمات بين السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إلا أن الأزمة الاقتصادية هي أكبر ما تواجهه مصر منذ عهد الخديوي إسماعيل، مصحوبة بأزمة سياسية يغيب عنها أفق الحلّ السياسي أو الحوار، ويغلب عليها الصوت الواحد، الذي يبدأ عنده كل شيء وينتهي عنده كلّ شيء، وذلك نتيجة السياسات الاقتصادية الخاطئة التي اتبعها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. وقد وصل الأمر إلى أن تبيع مصر الآن أصولها لسداد مديونياتها، أو بالأحرى عملية مبادلة تلك الأصول بالديون. وللحديث عن اللجوء إلى الأصول المصرية لسداد الدين ليس جديدًا، فالبداية تعود إلى إبريل/ نيسان 2019، حين سجّلت وزارة المالية المصرية أدوات الدين المحلي الحكومي من سندات وأذون خزانة في ضوء مذكرة تفاهم موقعة مع شركة الخدمات المالية الأوروبية "يورو كلير"، لتكون مؤهلة للمقاصّة الأوروبية، وبيعها أمام المستثمرين الأجانب، وإنْ كانت قد أجلت تلك الخطوة في ما بعد، عدة أشهر. 
خطورة هذا الأمر أن الأصول التي يبيعها السيسي والذين معه ليست فائضاً إنتاجياً، بل هي قاعدة مهمة لزيادة الناتج المحلي ومواجهة غياب الاستثمارات وتدفق العملة الأجنبية، كما أنّ هذه الأصول التي تباع الآن بقيمة أقلّ من قيمتها الحقيقية، نظراً إلى انخفاض قيمة الجنيه المصري، كما يحدُث الآن مع شركة الحديد والصلب في حلوان، المقرّر اليوم (10 يناير/ كانون الثاني 2023) بيعها بالمزاد بقيمة منخفضة عن قيمتها الحقيقية. ومصنع الحديد والصلب من أكبر مصانع الحديد والصلب في مصر، وأول مصنع من نوعه في الشرق الأوسط، كما أنه من الشركات ذات البعد الاستراتيجي، حيث إنه الوحيد الذي ينفرد بإنتاج الحديد الزهر من الخامات المحلية المأخوذة من خام مناجم الواحات البحرية، ويحوّله إلى منتج نهائي قادر على المنافسة في الأسواق العالمية. وبالتالي، تقييم هذه الأصول وبيعها بتلك القيمة المنخفضة لن يصبّ في صالح الاقتصاد المصري الآن أو مستقبلاً، وهو ما يعني أيضاً عدم قدرة مصر على الخروج من فخّ المديونية، لأنّ الدائنين سيكونون المالكين لتلك الأصول. وبالتالي، لن تعود علي الدولة المصرية أي أرباح. على أن تلك الاستراتيجية التي انتهجها السيسي، والذين معه، في بيع أصول الدولة، مستمرّة من دون أي اعتراضات لغياب قوى ممانعة أو معارضة، بعد أن تم سحقها وتغييبها من المشهد نهائياً، وسيطرة السيسي والذين معه على كلّ الأمور.

استراتيجية بيع الأصول ستستمر، ولن توقف إلّا بتغيير هذه المجموعة التي تستولي على السلطة

ويتّضح من هذه السياسة المتبعة لبيع أصول الدولة أنّ الصندوق السيادي الذي أسّسه السيسي، والذي يتحكّم فيه بصورة مباشرة، كما لا يجوز الطعن في أيٍّ من قراراته أمام القضاء، هو الآلة الأهم في ذلك، فهو بعيدٌ تمام البعد عن الرقابة، أو الخضوع لأيٍّ من أجهزة الدول الرقابية، كما أنّ المؤسسات المنوط بها تفعيل تلك الرقابة ساهمت في إجهاض حقّ الشعب في الرقابة على أصول الدولة من خلال التعديلات التي أدخلها مجلس النواب على قانون صندوق مصر السياسي عام 2020، هو أكبر دليل على أن استراتيجية بيع الأصول تلك ستستمر، ولن توقف إلّا بتغيير هذه المجموعة التي تستولي على السلطة، فالصندوق يبيع صناديق تمتلكها دول مختلفة، أو لدول دائنة بصورة مباشرة مثل الصين، ففي مارس/ آذار الماضي، نشرت وكالة بلومبيرغ الأميركية تقريراً، كشفت فيه تفاصيل اتفاق الحكومة المصرية مع صندوق أبوظبي السيادي، يتضمّن بيع أصول مملوكة للدولة المصرية في عدد من الشركات للصندوق الإماراتي هي: أبو قير للأسمدة والصناعات الكيماوية ومصر لإنتاج الأسمدة "موبكو"، (أهم شركتين في قطاع الأسمدة) والإسكندرية لتداول الحاويات والبضائع بقيمة ملياري دولار، إلى جانب شراء 18% من أسهم البنك التجاري الدولي (CIB) البنك الأكبر بالقطاع الخاص في مصر، وحصّة في شركة فوري للمدفوعات الإلكترونية. 
مخاطر عدّة يحملها هذا التوجّه الجديد شكلاً ومضموناً، على المصريين في التخلص من ثقل الديون عبر رهن أصول البلاد والتخلّي عنها في سبيل تبييض وجه النظام الحالي من التزامات مادية عالمية، فيما تتصاعد المخاوف من تكرار سيناريو الصين - سريلانكا، ما قد يعرّض السيادة المصرية للخطر ويضع اقتصادها الوطني تحت رهن الخارج. والدليل الواضح وجود نيّة مسبقة لوضع الاقتصاد المصري تحت رهن الخارج، وتجريد مصر من أي أوراق استراتيجية تواجه بها أعداءها، هو بيع أصول مهمة واستراتيجية مثل قناة السويس، والتي تعدّ أحد روافد العملة الأجنبية لمصر، وتمثل ورقة استراتيجية مهمة لمصر في سياستها الخارجية، كما أنها مطمع لدول عديدة منذ الاحتلال الإنكليزي لمصر. وإذا بيعت القناة، كما هو مزمع من السيسي والذين معه، فذلك، باختصار شديد، يعني إفشالاً شاملاً للدولة المصرية، وتعطيل أيّ إمكانات استراتيجية لها قد تساعدها في الخروج من الأزمة الاقتصادية التي وقعت فيها وجعلها فريسة سهلة للجميع. 

إمكانية حدوث فوضى في مصر مرجّحة، وهي فوضي لن يكون في استطاعة أحد معرفة شكلها أو اتجاهها

تأتي تلك الأزمة الاقتصادية مصحوبة بأزمة سياسية واحتقان وانقسام سياسي عنيف بين قوى المجتمع المختلفة، وغياب ثقة الأطراف في بعضها بعضا. على أن تعميق هذا الانقسام السياسي هو أحد المسائل التي لعب عليها السيسي، ومن معه في السلطة، من أجل إطالة أمد حكمه، واستخدام الوقت بوصفه عاملا مهما في البقاء أكبر مدّة في السلطة إلى جانب تمرير خططه الاقتصادية والسياسية. كل الأطراف السياسية المختلفة في مصر، سواء في المعارضة المهمّشة والمنقسمة على ذاتها داخليا وخارجيا، أو الموجودون في دوائر السلطة، أو حتى السلطة نفسها تدرك صعوبة الموقف، فأطراف المعادلة أقواهم سلطة سياسية متمرّسة تعلم حرج اللحظة، وذلك مع تصاعد معدّلات التضخّم ووجود احتقان سياسي واجتماعي بات مهدّدا للدولة والمجتمع المصريين، وكذلك لأغلب النظم السياسية للدول المتوسّطة، لم يجعل هذه السلطة تتراجع قيد أنملة عن سياستها المتّبعة على الصعيدين السياسي والاقتصادي، أو حتى محاولة تخفيف حدّة الاحتقان السياسي من أجل تجنّب مصير ستكون له توابعه، ليس على مصر فقط ولكن على الإقليم بكامله، فلو حدث وانفجرت الأوضاع في مصر، أو لم يحدُث اتفاقٌ ضمني على انتقال سلمي للسلطة، فإن إمكانية حدوث فوضى همرجّحة، وهي فوضي لن يكون في استطاعة أحد معرفة شكلها أو اتجاهها، لكنها بلا شك لن تكون على غرار ما حدث في يناير/ كانون الثاني 2022 من تظاهرات سلمية تريد تغييراً سلمياً لنظامٍ جثا على صدور المصريين عقوداً وما زال.

BA733789-23B4-4A69-9D4A-CB7E100A9A4B
تقادم الخطيب

أكاديمي، باحث مصري في جامعة برلين، مشارك في الحراك السياسي المصري منذ 2006؛ ومسؤول ملف الاتصال السياسي في الجمعية الوطنية للتغيير سابقاً.