مصر ... ما المخرج؟
ليس من المتصوّر أن يحقّق الحوار الذي يجري حالياً في مصر إصلاحات حقيقية في النظام السياسي، لأن هناك أوجه خلل كثيرة في العملية برمتها، فقد جاءت الدعوة إلى الحوار بعد أن وصل الاقتصاد إلى طريق مسدود، وظهرت التداعيات الخطيرة لنمط الحكم القائم على إقصاء المجتمع وقواه الحية ومؤسّساته، وتركيز إدارة السلطة والثروة في يد شخص واحد، والتحكّم في كل المؤسسات، بما في ذلك الجيش والقضاء. ولم تُدع للحوار أطراف رئيسية، وبالتالي، فإنّ الطرف المواجه للنظام ضعيف، وليست لديه عوامل قوة يمكن التعويل عليها للحصول على تنازلاتٍ من النظام.
وبرغم أن التحضير للحوار استغرق أكثر من عام، فإن مخرجاته استبعدت تعديل الدستور، وهذا خللٌ كافٍ بمفرده لتوقّع فشل الحوار، فالنظام كان قد عدّل الدستور لترسيخ قبضة الرئيس الفردية وسيطرته على الدولة والمجتمع. كما ظلّ تعامل النظام مع مطلب إطلاق سراح المعتقلين محدوداً للغاية، بل وجرت اعتقالاتٌ جديدة منذ دعوة الحوار في إبريل/ نيسان 2022. هذا بخلاف أنه لم تُطرح مسألة الإفراج عن المعتقلين الحاصلين على أحكام قضائية أمام محاكم لم تتوفّر فيها سمات النزاهة والشفافية والاستقلال أو في قضايا مسيّسة، بما في ذلك المعتقلون والمحكوم عليهم من التيارات الإسلامية.
وهناك خللٌ آخر، اتساع موضوعات الحوار حتى وصلت إلى موضوع هوية مصر! قد تكون غالبية الموضوعات التي طرحت مهمّة، لكن معالجتها غير ممكنة في جلسات حوارية مع النظام، فالنظام هو المسؤول الأوحد عن تفاقم المشكلات منذ تسلّم السلطة قبل عشر سنوات، فكيف يمكن الوثوق في أنه قادرٌ على إصلاح ما أفسده، بجانب أن أي حلول حقيقية لا بد أن تخرُج من مؤسّسات تمثيلية عبر انتخابات تنافسية، ويمكن مراقبة المسؤولين فيها ومحاسبتهم استناداً إلى إطار دستوري وقانوني فعّال، وفي ظل مجال عام مفتوح، وذلك كي لا تتكرّر أخطاء السنوات الماضية، ويتصوّر بعضهم أنه يمكن الاعتماد على "منقذ" جديد أو وعود وخطابات مضلّلة.
جوهر المشكلات في تغيير النمط القائم من الحكم الذي بدأ منذ 2013، والذي عانت مصر منه بشكل أو بآخر منذ 1952 وحتى 2011
ولهذا، تحتاج بوصلة الحوار إلى ضبط، حتى ننظر إلى الأمور على حقيقتها، ونعرف جوهر المشكلة في مصر، ثم نجتهد في إيجاد الحلول الحقيقية. جوهر المشكلات ليس البحث عن حلول لتداعيات مشكلاتنا الاقتصادية والاجتماعية التي صنعها نمط الحكم الفردي الإقصائي في السنوات العشر السابقة، وإنما في تغيير هذا النمط من الحكم الذي بدأ منذ 2013، والذي عانت مصر منه بشكل أو بآخر منذ 1952 وحتى 2011. هذه مهمّة صعبة، لكنها ممكنة ولا مفرّ منها. وفي الحالات المشابهة، كانت تجري عبر مسارين يتجاوزان الصراعات الأيديولوجية العدمية، ويركّزان على تحمّل شخصيات غير حزبية مهمة إعداد البلاد لنظام حكم ديمقراطي حقيقي، تكون السيادة فيه للشعب عبر البرلمان، وبلا قيود أو هيمنة من أي جهة غير منتخبة (كالمؤسسات العسكرية والأمنية والقضائية والدينية)، وتكون السلطة التنفيذية خاضعة للرقابة والمحاسبة، وتتوفر في النظام ضمانات تحفظ حقوق الأغلبية والأقلية معاً، وتضمن عمل مؤسّسات الدولة من أجل المصلحة العامة بعدل وكفاءة واستقلال عن التسييس والتحزب.
المسار الأول، الاستمرار في جلسات الحوار الحالي، لكن بعد ضبطه ليصبح (1) حواراً حقيقياً يجري على طاولة مستديرة وإسقاط القيود التي وضعها النظام، و(2) توسيع المشاركة وتحمّل المسؤولية لتشمل كل القوى على اختلاف انتماءاتها السياسية والأيديولوجية، و(3) تغيير أجندته لتتضمن بنداً واحداً، هو "تغيير نمط الحكم وتفعيل دولة المؤسّسات وسيادة القانون". وإذا رفض النظام هذا المسار، فإن الحد الأدنى المطلوب من أي معارضة حقيقية هو التكتل وراء مسار ثان، من خلال رفع سقف مطالبها، والضغط لتحريك المياه الراكدة، والمطالبة بفترة انتقالية لا تشترك فيها هذه القوى السياسية كافة ولا النظام الحالي. وقد سبق أن اقترحتُ حلاً قريباً من هذا على نظام حسني مبارك في 5/1/2011 (بعد جريمة تفجير كنيسة القديسيْن بالإسكندرية في الساعات الأولى من عام 2011 وقبل أسابيع معدودة من اندلاع ثورة يناير)، وطالبت "بتنحّي الحزب الحاكم ودخوله في حكومة إنقاذ وطني مع جميع القوى الوطنية الأخرى، لفترة انتقالية يجري خلالها تمهيد الطريق لتشكيل جمعية وطنية تأسيسية، تتولّى مهمة إعداد دستور ديمقراطي".
فارق كبير بين المؤسّسات العسكرية والأمنية والقضائية في ظل حقبة النظم التسلطية والفردية والمؤسّسات نفسها، في ظل النظم الديمقراطية
وبنظرة واقعية، يرفع هذا الحل عن كل طرف عبء تحمّل المسؤولية وحده في هذه الظروف الصعبة، وينظر إلى المستقبل بدلاً من الماضي، ويقوم على المشاركة والاستفادة من كل القدرات المتوفرة بدلاً من الإقصاء واحتكار فرد واحد تشخيص المشكلات ووضع ما يتصوّر أنها الحلول المناسبة. وهذا الحل ليس بدعة، فالدول التي مرّت بمراحل صراعية وأزمات حادّة كان عليها أن تمرّ بمرحلة انتقالية تديرها حكومة من خارج الأحزاب المتصارعة، بضمانات أو آليات إقليمية ودولية للمراقبة والمتابعة.
بموجب هذا الحلّ، تتولى إدارة البلاد حكومة وطنية انتقالية سنتين أو ثلاثاً، تتكوّن من شخصيات عامة، وخبراء غير منتمين للأحزاب القائمة، وممثل أو أكثر للمؤسسات العسكرية والأمنية. وتكون للحكومة غاية أساسية، هي إعداد البلاد للانتقال إلى نظام ديمقراطي حقيقي من خلال: وضع الأطر الدستورية والقانونية الكفيلة بإنجاز هذا الانتقال؛ وإطلاق سراح المعتقلين، وإسقاط الأحكام الجائرة، وإدارة البلاد، ومعالجة ما يمكن معالجته من تداعيات السياسات السابقة. وتتولّى الحكومة الصلاحيات التنفيذية والتشريعية كاملة، ويكون لها السيادة كاملة، فلا رقابة عليها لا من القضاء ولا من الجيش. ومن ضمانات حياد هذه الحكومة ألا يُسمح لأعضائها بخوض الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية دورتين كاملتين، ويمكن أيضاً الحصول على ضماناتٍ إقليمية ودولية من جامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي. بجانب تعهّد الأحزاب ومؤسّسات الدولة بدعمها، طالما جرى ائتمان مجموعة من الشخصيات القادرة على القيام بهذه المهمة. ومع نهاية المرحلة الانتقالية، تُجرى أول انتخابات ديمقراطية تتنافس فيها كل القوى السياسية، تحت سقف الدستور الديمقراطي الجديد، لتنبثق عنها سلطة منتخبة تشريعية وتنفيذية.
لا يضمن هذا الحل إقامة نظام ديمقراطي فقط، وإنما أيضا يفيد مؤسّسات الدولة التي جرى تسييسها (وأهمها الجيش والقضاء) ويحقّق لها استقلاليتها، فهذا طريقٌ سليمٌ ومُجرّبٌ لإنقاذها من براثن السياسة، ومما حل بها خلال السنوات السابقة، فضلاً عن تعزيز قدراتها وموقعها بوصفها مؤسّسات دولة تعمل من أجل المصلحة العامة، ولا يجري زجّها في صراعات السياسة المتقلبة. ولنا عبرة وعظة في تجارب دول مثل البرازيل وإسبانيا والبرتغال وتركيا وكوريا الجنوبية وغيرها (والتي كانت أحوالها تشبه أحوالنا وأحياناً أسوأ)، إذ هناك فارق كبير بين المؤسّسات العسكرية والأمنية والقضائية في ظل حقبة النظم التسلطية والفردية (حيث كانت تُستخدم في خدمة الفرد الحاكم الأوحد) والمؤسسات نفسها، في ظل النظم الديمقراطية (حيث صارت أكثر استقلالاً وتحرّراً من هيمنة النظام، وتؤدّي أدوارها الفعلية في خدمة الشعب والمجتمع).