مصالح روسيا تحت عين تركيا

18 يوليو 2024
+ الخط -

بعد أن نقل ألكسندر لافرنتييف، مبعوث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، رسالة تطلب من بشّار الأسد العمل بجديّة من أجل إعادة علاقات نظامه مع تركيا بشكل واضح، جاءت تصريحات الأسد، على الفور، بالترحيب والانفتاح على تركيا.

وليس هذا التقارب طارئاً، كانت بذور التطبيع التركي مع نظام الأسد تنضج تدريجياً، منذ عامين تقريباً، حيث زار دمشق، رئيس جهاز المخابرات التركية السابق (وزير الخارجية الحالي)، هاكان فيدان، بهدف التنسيق الأمني مع مخابرات الأسد، بتوجيه روسي، ومن خلفه جملة مخاوف على مصالح الروس في سورية، وذلك بعد أن أدخل بوتين بلاده حرباً طويلة مع أوكرانيا.

لم تكن نيّة النظام السوري المحرّك الأساسي في تدوير عجلة العلاقات بين الأسد وتركيا، ولو كان ذلك من باب تبادل التطمينات الأمنيّة طوال العامين الفائتين، أو ربّما قبل ذلك بسنوات قليلة، إنّما هو البحث المستمرّ من أجل حفظ ماء وجه القوى الدولية المُتصارعة في المنطقة؛ والتي في جميع الأحوال سهّل وجودها اختراقات جويّة مستمرّة سمحت لإسرائيل باستهداف العدو الخفيّ لروسيا في سورية، إيران، والتي هي هنا بيت القصيد! النيّة في التطبيع، حتّى العربي، مع الأسد، هي حركة نابعة من مصالح روسيا ورغبتها بالحفاظ على نظام الأسد، وحمايته من أعدائه وحلفائه، حتّى من الوجود الإيرانيّ الذي بات مكشوفاً يوماً بعد آخر.

ثمّة استهداف لا حدود له تقوم به إسرائيل لكلّ ما يخص إيران في سورية، وقد وصل ذلك إلى قصف مراكز الرعاية الاجتماعية والتعليمية الإيرانية التي نادراً ما يتمركز فيها عسكريون إيرانيون. بالتالي، لا يمكن الاعتماد على إيران للتحالف من أجل حماية مصالح روسية الاستراتيجيّة في سورية.

والإيرانيون منذ بداية الصراع في سورية، كان همّهم التغيير الديمغرافيّ للبلاد، نشر التشييع وفرض سرديّات طائفيّة في المنطقة؛ في نوع من تعزيز الوجود الثقافيّ على المدى البعيد، وذلك السلوك الإيرانيّ، هو على ما يبدو ما تُعيبه روسيا حالياً على المستويين السياسيّ والعسكريّ، وتظنّ أنّ شراسة الوجود الإيرانيّ، المذعور، لا يمكنها حماية أصحابه، فعلياً، على الأراضي السورية، ولعلّ استهداف مكتب للسفارة الإيرانيّة في دمشق، في مايو/ أيار الماضي، كان خير دليل إقليميّ لفهم مدى الضعف الأمنيّ الذي تعانيه إيران في سورية.

النيّة في التطبيع، حتّى العربي، مع الأسد، هي حركة نابعة من مصالح روسيا ورغبتها بالحفاظ على نظام الأسد، وحمايته من أعدائه وحلفائه

وبما أنّ الوجود التركيّ شمال سورية يهيمن استراتيجياً وسياسياً على الأجسام العسكريّة المسلّحة التابعة للمعارضة السورية بمختلف فصائلها وتوجهاتها، وحتى تضمن روسيا حليفاً متوازناً ويمتلك قوة سورية هي المعارضة المسلحة التي قد تهدّد جيش الأسد، بمقدار محدود، وكذلك القواعد الروسية في سورية، فيما لو رغبت تركيا بالتلويح بأوراق ميدانية لتعزيز هيمنتها شمالاً، مثل ملف "قسد" أو ملف المعابر الحدودية، إضافة إلى التضييق على اللاجئين السوريين في أراضيها. وردّاً على المبادرة الروسية باقتراح اجتماع مشترك لممثلين عن نظام الأسد وعن تركيا، كانت الأخيرة ترى أن يلتقوا في بغداد من دون إعلام ومن دون وجود طرف ثالث.

ويمكن لنا فهم ما حدث، أخيراً، في الشارع التركيّ من سلوكيات تعكس أفعال القبول ضد معارضي الأسد في مدن تركيا الحدودية مع سورية، إذ رأينا كيف اشتعلت في بعض المناطق أحداث دامية رافقها تحطيم ممتلكات للاجئين سوريين في تركيا، وتسويق كبير لكراهية مباشرة عبر منصات إعلامية غير رسمية أدّت مهمتها على أكمل وجه، حسب ما رأينا، وذلك ما دفع الفصائل العسكرية المعارضة والمدعومة من تركيا، شمال سورية، لأن تسجل موقفاً عبر تمزيق الأعلام ومهاجمة هيئات تركية في المناطق السورية الواقعة تحت يدها.

لقد تركت الحكومة التركية كلّ ذلك التحريض ضد اللاجئين السوريين، يأخذ طريقه ويتسع، وبعد قرابة يومين بدأت تتحرّك، وراحت تُصدر بيانات رسمية تدين الأتراك الذين حطّموا مصالح اللاجئين، اعتقلت معظمهم، بحسب قولها. لقد دانتهم في إعلامها الرسمي، لكن من دون أن نعلم حقاً ما هي الإمكانية الفعلية المتاحة لأن تضبط (الحكومة) مجتمعاً انتشرت فيه سمعة معيبة، قصص مرعبة، مفتعلة أو واقعية تداعت بعد زعم يدور عن لاجئ سوري قيل إنه "تحرّش بقاصر تركية" في منطقة قيصري، التركية، وكيف يمكن لذلك كله أن يهدأ؟ لن يكن هناك من حلّ قريب، ربّما، سوى ترحيل كلّ من لم يعد يشعر بالأمان في تركيا من اللاجئين السوريين أو أن يكون يداً بيد مع مصالح تركيا مهما كانت، بما فيها التطبيع مع الأسد وروسيا وقبول الجلوس للتفاوض من أجل فتح أقنية تبادل المصالح، ولتذهب حقوق اللاجئين أدراج الرياح. التهم جاهزة لهم، ولن يعاني منها الأفراد بصفتهم لاجئين، إنما ستأتي آثارها على كل الجالية السورية في تركيا والتي يشكل جلّها اللاجئون.

الوجود التركيّ شمال سورية يهيمن استراتيجياً وسياسياً على الأجسام العسكريّة المسلّحة التابعة للمعارضة السورية

هناك تقليل متوقّع من امتيازات حلفاء تركيا في الجانب السوري من معارضة مسلحة ولاجئين، وربّما يُمارس ضغط إعلامي على قرارهم وتحركهم إلى حدّ يجعل نظام الأسد يستوعب مدى تأثير هذا الحليف الروسي على الأرض، وأن مسألة فتح المعابر الحدودية وتعزيز اقتصاد حلفاء النظام أمر بيد تركيا، وليست هيئة تحرير الشام سوى شريك مقاولٍ في إدلب، وسوف تضمن تركيا الضربات المتفق عليها لمواقع جيش الأسد من دون إلحاق الضرر بمصالح روسيا أو عمليات التنقيب المستمرّة عن النفط والغاز في البرّ والبحر. وفي المقابل، ما هي الأشياء المتوقعة التي قد تطلبها تركيا من روسيا بخصوص مصالحها على الأرض؟

بالرغم من نوعية العمليات العسكرية التي قامت بها تركيا في سورية خلال السنوات الماضية، وكان مبرّرها الحدّ من نشاط الأكراد شمالاً، إلا أنها، وبصورة جازمة، تسعى باستمرار إلى ابتلاع مزيد من المناطق شمال سورية لسببين أساسيين: أبرزهما مراقبة العمليات الأميركية قرب حقول النفط ومعسكرات اعتقال "داعش"، وثانيهما إضعاف أيّة قوة عسكرية كرديّة معادية لها على الحدود الطويلة نسبياً مع سورية. وهكذا يصبح بالإمكان وضع اللاجئين السوريين بثقل أكبر في المناطق التي تهيمن عليها تركيا شمالاً، وبموافقة وضمان روسيين حتى لا تتسرّب أي أفكار معارضة ثورية إلى الداخل السوريّ، وليتمكّن إعلام الأسد من وصم هؤلاء بأقذع الألقاب بعد أن تحولت أحلامهم إلى ورقة تفاوض عليها الدول اللاعبة بمصير سورية، دول لن تتوقّف لحظةً عن التفكير بمستقبل السوري وحريته وأمنه، وسيبقون على أرض سورية تحت وصاية أجنبية على منوال شمال قبرص.