مشكلة الطائرة المقاتلة التركية
مثل دولٍ عديدة، تعتمد تركيا على الولايات المتحدة حينما يتعلق الأمر بمسألة الطائرات المقاتلة، إذ تمتلك القوات الجوية التركية في ترسانتها العسكرية طائراتٍ أميركية المنشأ منها 240 مقاتلة من طراز F-16 و 40 مقاتلة من طراز F4. عمر طائرات الـ F-16 يتراوح بين 30 - 40 سنة فيما يصل عمر طائرات الـ F4 إلى 60 سنة. ورغبة من الحكومة التركية في تجديد أسطولها من الطائرات الحربية تقدمت في عام 2000 بطلب شراء 32 طائرة من طراز F-35A من شركة لوكهيد مارتن الأميركية. تطورت الشراكة في 2002 بأن أصبحت تركيا شريكة في مشروع التصنيع، غير أنها أُخرجت بصورة رسمية من البرنامج في 2021. فلا أعادت الولايات المتحدة المبلغ المقدم لشراء الطائرات ( 1.2 مليار دولار) ولا أوفت بتسليم الطائرات الست التي خصص تصنيعها للقوات الجوية التركية. تحتفظ الشركة المصنعة بتلك الطائرات في حظيرة الطائرات الخاصة بها. لم ينته الأمر عند ذلك فحسب، بل طالب مسؤولو الشركة في وقت سابق تركيا برسوم وقوف الطائرات.
يرجع السبب في عدم تسليم طائرات F-35A إلى تركيا إلى شراء الأخيرة لمنظومة صواريخ أرض جو من طراز S-400 من روسيا. ويساوم الأميركيون بأنه يمكن أن تُسلم طائرات F-35A في حال تخلص الجيش التركي بطريقة أو أخرى من منظومة S-400 الروسية. فبحسب ادعاءات المسؤولين الأميركيين أن المنظومة الروسية لها القدرة على الحصول على معلومات سرية عن طائرات F-35. ويدحض هذا الادعاء تحليق طائرات F-35 التي تمتلكها إسرائيل في سورية، رغما من انتشار منظومات S-300 و S-400 في الأراضي السورية. إذا كانت منظومة S-400 قادرة حقا على الحصول على تكنولوجيا طائرات F-35 كما يدعي الأميركيون، فلِما جاز لطائرات F-35 الإسرائيلية التحليق في سورية؟ فيبدو أن امتلاك تركيا الصواريخ الروسية ما هو إلا أحد الأعذار العديدة الواهية. فحتى إن دمر الجيش التركي المنظومة الروسية اليوم قبل الغد فلن تسلمها أميركا طائرات F-35 رغما عن ذلك.
العلاقات التركية الأميركية لم تكن على أحسن حال منذ وقت طويل. إذ وقفت الدولتان على النقيض خصوصا في الفترة الأخيرة، وتضاربت على هذا الأساس مصالحهما. فعلى سبيل المثال، استخدام الأميركان منظمة كردية تصنفها تركيا منظمة إرهابية في القتال ضد "داعش" في سورية أثار غضب الأتراك. سبب آخر أثار حفيظة الأتراك وهو استضافة وعدم تسليم أميركا لأحد الضالعين في الانقلاب العسكري الفاشل في سنة 2016 فتح الله غولن زعيم التنظيم. كما تتهم تركيا أميركا بدعمها الإرهاب، ومن الجانب الآخر يتهم الأميركان الأتراك بالإضرار بمصالحهم. إضافة إلى ذلك قد أثار قلق الأميركان، استمرار العلاقات التركية الروسية على الرغم من الحرب مع أوكرانيا، ودعم تركيا أذربيجان في حربها في كاراباخ ضد أرمينيا. علاوة على العلاقات الثنائية المعقدة، فقد ظهر للسطح أيضا ضغط الجانب الإسرائيلي على أميركا لمنعها من بيع F-35 لتركيا. وذلك لرغبة إسرائيل وحرصها على أن تكون صاحبة التفوق العسكري الجوي في المنطقة. كما حرصت العديد من جماعات الضغط اليونانية والأرمينية على عدم تسلم تركيا لطائرات F-35.
يمكن للجانب الأميركي أن يتذرع بحجج جديدة لعدم البيع، حيث إنه قد وعد بالموافقة على بيع F-35 لتركيا سابقا لكن شيئا لم يحدث
نتيجة لما سبق، يمكن القول إن تركيا لن تحصل على المقاتلة الأميركية في الوقت القريب أو قد لا تحصل عليها. والحال أنه أصبح لزاما على تركيا تجديد أسطول طائراتها الحربي المتقادم. ولتحقيق تلك الغاية تقدمت الحكومة التركية لأميركا بطلب شراء 40 طائرة من طراز F-16 Blok 70 من الجيل الحديث والمعدات والمستلزمات المطلوبة لتحديث 79 طائرة F-16 الموجودة ضمن الأسطول الحربي التركي.
وافقت الحكومة الأميركية على طلب البيع الذي كانت متذرعة بموافقة الكونغرس عليه أولا، وذلك بعد موافقة تركيا على طلب انضمام السويد لحلف الناتو. ولكن هذا لا يعني بالضرورة انتهاء مشكلة تركيا مع الطائرات المقاتلة. إذ يمكن للجانب الأميركي أن يتذرع بحجج جديدة لعدم البيع، حيث إنه قد وعد بالموافقة على بيع F-35 لتركيا سابقا لكن شيئا لم يحدث. كما وضعت واشنطن شروطا تعجيزية على تركيا حتى تبيعها منظومة صواريخ Patroit مما جعل الأخيرة تصرف النظر عنها. لتلك الأسباب مجتمعة فإن تسلُّم تركيا لطائرات F-16 بتاريخ 2028 ما زال إحتمالا ضعيفا.
وافقت الحكومة الأميركية على بيع تركيا طائرات F-16 من جانب، وعلى بيع 40 طائرة من طراز F-35 لليونان من جانب آخر. يعني ذلك أن اليونان ستتحصل على الطائرات التي كانت تركيا شريكة في تصنيعها والتي قد تحوي بعض القطع المصنعة في تركيا بالفعل، فيما تحصل تركيا على طائرات ال F-16 الأقدم وإن كانت النسخ محدثة. تحاول أميركا بصورة عامة خلق شكل من أشكال التوازن بين تركيا واليونان. إذ تحرص على عدم تفوق واحدة على الأخرى عسكريا. لكن القرار الأخير يظهر رغبة أميركا في تفوق اليونان على تركيا (يقال إن السبب يرجع إلى قوة وتفوق أسطول المسيرات المسلحة التركي).
تركيا لم يسبق لها أن صنعت طائرة مقاتلة، هذا يعني أن كل شيء سيبدأ من الصفر تقريبا
تمتلك اليونان كلا الطرازين القديم والحديث من طائرات F-16 كما أنها اشترت طائرات رافال من فرنسا. وبعد تسلمها طائرات F-35 بعد أربع سنوات من الآن، ستمتلك اليونان سربا قويا من الطائرات المقاتلة. بالتأكيد إن هذا الوضع يزعج تركيا بدرجة كبيرة، لأن تسليح حلفاء الناتو لليونان يعد مدعاة لعداوتهم تجاه تركيا. علاوة على ذلك فإن تركيا لها العديد من المشكلات مع اليونان وقد وصل بهما الحال إلى حافة الحرب في أكثر من مرة. امتلاك دولة صغيرة كاليونان لهذا النوع من الأسلحة المتقدمة يدفع تركيا بالضرورة إلى حرصها على التسلح. كما أن اليونان القوية مستقبلا ستزهد في اللجوء للحلول الدبلوماسية في حل مشكلاتها مع تركيا، فإما أن ترغب في تحدّي تركيا أو أن تتركها بدون حلول. هنالك شكوك عند الحكومة التركية بأنه يمكن الزج باليونان في حرب مع تركيا. في حال نشوب حرب بين الدولتين ستُمنح اليونان الأسلحة والمعدات اللازمة فيما سيتم العمل على إضعاف تركيا.
ومن الواضح انزعاج أنقرة الشديد من منح جارتها المضطربة اليونان الأسلحة المتقدمة فيما تواجه هي بحظر بيع الأسلحة لها. لذلك تبحث عن حلول مستدامة من أجل أمنها. فيما يختص بالطائرات الحربية فقد تأكّد لها أن الحل لا يكمن في استيرادها، لأن حلفاءها في الناتو لا يرغبون ببيعها الطائرات المقاتلة، وفي حال البيع يكون ذلك بشروط معينة، على سبيل المثال عدم منح الرموز البرمجية أو عدم استخدامها ضد اليونان.
لكل ما سبق ذكره، قرّرت تركيا تصنيع طائرتها بنفسها. تُجرى حاليا التجارب الأرضية للطائرة الحربية التركية KAAN. كما يُنتظر أن تحلق الطائرة لأول مرة في الأيام القادمة. على الرغم من صعوبة هذا المشروع فإن كُتب له النجاح سيشكل حلا جذريا لمعضلة الطائرات المقاتلة لتركيا والدول الصديقة لها. سبب إشارتنا لصعوبة المشروع هو أن تركيا لم يسبق لها أن صنعت طائرة مقاتلة، هذا يعني أن كل شيء سيبدأ من الصفر تقريبا. أيضا سيتم استيراد العديد من القطع من دول أخرى بالضرورة. في واقع الأمر بدأت تركيا بتصنيع العديد من القطع محليا ولكن تصنيع أكبر وأهم قطعة وهي المحرك سيتطلب العديد من السنوات. وفقا لبعض التقديرات فإن تركيا ستتمكن من صنع محركها الخاص بحلول العام 2028. وفي حال تصنيع المحرك فإن عملية اختباره ستطلب سنوات أخرى. لذلك تَصوّر الطائرة المحلية بمحرك محلي الصنع بحلول العام 2033 من الصعوبة بمكان.
استيراد الطائرات المقاتلة لم يعد حلاً ﻷن من الواضح عدم رغبة أميركا وأوروبا في منح تركيا أياً منها، والخلاصة أن لا مخرج لتركيا إلا بتصنيع طائرتها
ستقوم الشركة الحكومية TUSAŞ بتصنيع المحرك والطائرة معا. ستستخدم الشركة محرّك F110 المستخدم في طائرات F-16 إلى حين تصنيع المحرك المحلي، غير أن هذا المحرك أميركي الصنع وبيعه لتركيا مربوط بموافقة الحكومة الأميركية. في حال امتنع الأميركان عن بيعه ذلك سيعني بالضرورة تأخير تصنيع أسطول KAAN.
إن الشعوب والدول إذا وضعت في مأزق أو واجهتها تحديات وجودية لا تتراجع بسهولة عن المضي قدما. تعتبر الطائرة المقاتلة KAAN ذات أهمية قصوى بالنسبة للأمن التركي. في حال فشل تصنيعها ستكون تركيا في موقف ضعف أمام أعدائها. سبق أن ذكرنا أن استيراد الطائرات المقاتلة لم يعد حلا ﻷنه من الواضح عدم رغبة أميركا وأوروبا في منح تركيا أيا منها. خلاصة القول، لا مخرج لتركيا إلا بتصنيع طائرتها المحلية.
رغما عن كل الصعوبات والسلبيات التي ذُكرت فإن من بين طياتها تكمن فرص عديدة لتركيا. فحينما تكون الدول في موقف معقد يمس أمنها ذلك يحفزها أكثر على حماية نفسها والبحث عن كل السبل لتحقيق ذلك. فلو كانت العلاقات التركية الأميركية الأوروبية على ما يرام لما ظهر مشروع المقاتلة التركية للنور، ولدفعت تركيا مقابل استيراد المقاتلات كالدول الأخرى، وسيكون ذلك على حساب خضوعها لشروط البائع وقبولها مهما كانت. لذلك اتخذت تركيا قرار التصنيع محليا حتى يتسنى لها التحرك بحرية أكبر.
نعم، هنالك الكثير من الصعوبات الماثلة أمام تركيا، لكن من المحن تكون المنح. وقد يأتي اليوم الذي يشكر فيه الأتراك الغرب على حظره لتصدير الأسلحة إليهم، لأن المحرك لكل سلاح يصنعونه وخصوصا KAAN سيكون الحنق من ذلك الحظر.