مشاهدة الحرب
هناك إصرار عجيب، ربما هو قادم من لاوعي جمعي، وليس بإرادة تضامنية من مستخدمين لا يعرفون بعضهم بعضاً في مواقع التواصل، على تقسيم العالم إلى أسود وأبيض، والمزايدة على الآخرين، ورفع منسوب الانفعال والتوتر في الردود، حتى يتحوّل النقاش حول قضية عامة إلى استهداف شخصي، وقد ينتهي إلى تشاتم وتبادل للعبارات النابية. وهذه مشكلة علّتها الانسحار بشكل "حلبة الصراع"، فلا شيء مهماً خارج حلبة الصراع. بتجاهل لحقيقة أن الواقع أكثر تعقيداً وتنوّعاً من مجرّد استقطابات حلبة صراع.
يحدُث هذا غالباً، في مواقع التواصل الاجتماعي، مع أحداث تافهة، كزواج عارضة أزياء أو "فاشنيستا"، أو أحداث بالغة الجدّية كالحروب والمجازر الدامية. لهذا لا أثق كثيراً بفورانات الانفعال التي تغطّي مواقع التواصل، ففي عصبها العميق يرقُد خيطٌ من "الترفيه" الممزوج بالخطيئة، وإدمان رفع الأدرينالين وتحفيز الدوبامين، حتى وإن لم يُدرك المنخرط بهذا المسار ذلك. وقد قال الفيلسوف الفرنسي جان بودريار شيئاً مقارباً. ففي كتابه "حرب الخليج لم تحدُث"، يرى أن حرب "عاصفة الصحراء" التي حرّرت الكويت من الغزو العراقي في 1991 تم تمثيلها بصرياً من خلال التغطيات الخبرية بما يجعلها أقرب إلى النصوص الفنية، فالواقع الفعلي لفظائع الحرب تمت فلترتها كي تناسب استقبالاً محدّداً سلفاً، كما أن الأميركان خاضوا حرباً افتراضية من خلال الأقمار الصناعية، بينما كان العراقيون يتوقّعون حرباً تقليدية بمواجهة مباشرة بين جيشين.
تحت دعوى عدم إيذاء المتابعين، فإن قنواتٍ كثيرة تضبّب على وجوه الضحايا والقتلى، ويتم تخفيف حدّة المأساة كي تكون مناسبة لمستوى معيّن من الانفعال، يجاري المتابعة الكسولة لشخصٍ يفتح التلفزيون بعد يومٍ متعب، أو يتصفّح على عجالةٍ مواقع التواصل الاجتماعي على هاتفه.
تجري فلترة الواقع الفعلي عدّة مرّات، قبل أن يصل إلى المتلقّي، وأحياناً يجري تقديمه كي يخدم "حلبة الصراع" التي تفترض وجود خصمين. وحلبة الصراع في جوهرها تثير نوعاً من الشدّ والتوتر المثير للمتعة الخاطئة، أو المتعة الممزوجة بالخطيئة، فكيف يمكن لإنسانٍ سويّ أن يتمتّع بأخبار المجازر؟! ولكن، هذا ما تقوم به الصحافة، فالصحافة فنّ في نهاية المطاف، وهناك قوالب مسبّقة وعناية بالشكل، وتكثيف واختزال، وأيضاً هناك رغبة بعدم إيذاء المتابعين!
قبل أسابيع، علّق مقدّم برامج سياسية عراقي مشهور بما يشبه الدعابة، أن البرامج السياسية صارت رتيبة بسبب انسحاب الصدر من العملية السياسية.
يشير هذا التعليق الممازح إلى حقيقة؛ فالطرف الخصم للتيار الصدري وحده حاليا في الساحة السياسية، وكان هذا الخصم (أحزاب وتشكيلات ما يسمّى الإطار التنسيقي الشيعي) يخوض صراعاً سياسياً وكلامياً مع الصدريين من جهة ومع الأميركان من جهة أخرى. وهو اليوم يجلس وحده على الطاولة بغياب الخصم الذي يرسم شكل "حلبة الصراع"، ونبرتُه تجاه الأميركان منخفضة جداً. هناك جمودٌ في الأجواء لا يساعد البرامج السياسية التي تنتعش بالصراعات والجدالات الساخنة، بل وحتى تبادل الشتائم. لذلك انتقلت بؤرة الشدّ والتوتر في بعض البرامج السياسية العراقية إلى الأحداث في غزّة وتأثيراتها على الشأن العراقي.
يذهب كثيرون من مستخدمي مواقع التواصل من الباحثين عن إثارات "حلبة الصراع" إلى حسابات إسرائيلية، على سبيل المثال، مصمّمة للإثارات ليس إلا، ويُغرقونها بالشتائم، أو يزايد على آراء مدوّنين ويحاولون إيجاد قطب مضادّ بأي صورة، من دون أن يكلّف نفسه أن يتعرّف إلى أبعاد القضية الأساسية. كأن يذهب ليقرأ كتباً عن القضية الفلسطينية مثلاً، أو مقالات أو مشاهدة وثائقيات، ليكون عنصراً واعياً مفيداً.
هذا جزءٌ من الجمهور العام لا يعوّل عليه، فهو سيذهب بسرعة، في اليوم التالي، إلى القضية الأكثر إثارة، والأكثر تمثيلاً لشكل "حلبة الصراع".