مستقبل الديمقراطية في عالم سائل

17 فبراير 2022
+ الخط -

شَكَّل نظام الحكم الديمقراطي ثورة سياسية في سياق تطوُّر أنظمة الحكم في التاريخ. وعلى الرغم من قِدَم مفردة الديمقراطية، وصعوبة الاتفاق على تعريفٍ دقيق لمختلف مُكوِّناتها السياسية والثقافية، فإنّ الديمقراطيات في التاريخ المعاصر ركَّبت جملة من الخيارات والإجراءات التي أصبحت تحدِّد الملامح والقسمات الكبرى لبنياتها وحدودها. كما تقف وراء مختلف العقود والدساتير التي تَمَّ ترتيب بنودها في مختلف الديمقراطيات السائدة في عالمنا، إذ يجمعها تصوُّر معينٌ لأدوار الدولة وعلاقاتها بالمجتمع، وتحكمها قواعد عامة كما تفرّق بينها تفاصيل وإجراءات، ترتبط بطبيعة المجتمعات التي تتبناها.

يُعَدُّ النظام الديمقراطي، مقارنة مع ما سبقه من أنظمة سياسية، ثورة فعلية في تاريخ الممارسة السياسية. وهناك شبه إجماع على عديد من مزاياه، إلّا أنّ الممارسة الديمقراطية، على الرغم من القَبول الذي تحظى به، تعتريها باستمرار تحولات، وتنشأ في قلبها مفارقاتٌ تدعو إلى النظر والمراجعة، الأمر الذي يقضي بمواصلة التفكير في أسسها وقواعدها العامة، قصد استيعاب طبيعة المآزق التي تترتَّب عن مستويات تسيير آلياتها والعمل على تجاوزها.

لا يتعلق الأمر بموضوع التحولات والمآزق التي تعتري النظام الديمقراطي بالمجتمعات السياسية ذات الديمقراطيات العريقة، بل إنه يشمل أيضاً، الديمقراطيات الفتية والهجينة، وكذا الديمقراطيات المَعِيبَة. كما يشمل ما يُعْرَف اليوم بمجتمعات الانتقال الديمقراطي، التي نُدرج ضمنها بعض المجتمعات العربية، ففي مختلف هذه الديمقراطيات تنشأ أشكال من التراجع عن القواعد الديمقراطية، كما تنشأ ظواهر سياسية تخترق بنيات النظام والمجتمع، فنصبح أمام ظواهر شبيهة بما يجري في الأنظمة السلطوية، الأمر الذي يستدعي بناء متطلبات تعزيز الأداء الديمقراطي وتطويره، وتجاوُز ما ينشأ في سياق مؤسساته من ظواهر تسمح بإمكانية الإخلال بمبادئه الكبرى. ونتصوَّر أنّ صور الخلل التي تُشَوِّش بقوة على مزايا الديمقراطية في الشمال والجنوب وفي الشرق والغرب، نشأت بفعل المزايا التي وفَّرها النظام الديمقراطي، إذ تنشأ اليوم ديمقراطية مضادّة، مُستغِلَّةً الإجراءات والقوانين التي يوفرها.

أصبحت آليات العمل الديمقراطي، المتمثِّلة في القوانين والإجراءات والتوافقات الحاصلة داخل المجال العام مُهدَّدة بجملة من العوائق التي نشأت وتنشأ في قلبها

يحق لنا أن نتساءل عن مستقبل الديمقراطية ونحن نُعاين اليوم، هنا وهناك، في المجتمعات الصانعة لكثير من مآثرها في عالمنا، ظواهر كثيرة تهدد النظام الديمقراطي. وما يجري اليوم في فرنسا وتونس والمغرب، على سبيل المثال، يكشف صعوبات الركون إلى نمط نظام الحكم الديمقراطي في الصيغ التي استقرّ عليها، فقد أصبحت آليات العمل الديمقراطي، المتمثِّلة في القوانين والإجراءات والتوافقات الحاصلة داخل المجال العام مُهدَّدة بجملة من العوائق التي نشأت وتنشأ في قلبها، ففي فرنسا التي تتهيأ لاستحقاق الانتخابات الرئاسية، في 23 إبريل/ نيسان المقبل، يدور نقاش داخل القنوات الإعلامية بشأن برامج المرشّحين وكيفيات مواجهتهم التحدّيات الكبرى في المجتمع الفرنسي، إلّا أنّ المثير في كثير مما تتداوله وسائل الإعلام هو التخلي عن قيم كثيرة ترتبط بالتاريخ الفرنسي. وبدل أن يتجه الحوار إلى النظر في إشكالات الحاضر الفرنسي في الاقتصاد والسياسة، يُعَمَّم الحديث بلغةٍ محافظةٍ عن الهُوية والنقاء الهويات .. فنصبح أمام ديمقراطيةٍ تمتلك القدرة على محاصرة ذاتها، تُغْفِل الثورات والتحولات الكبرى التي يعرفها العالم، وما ترتَّب عنها من تزايد في التفاوت الاجتماعي بين مختلف فئات المجتمع. كما تُغْفِل المراجعات المطلوبة للإرث الاستعماري ومخلفاته، ويتم الانتصار فيها لأسئلة الهوية والهجرة والمهاجرين، على حساب تغييب القيم الكبرى التي أنتجتها الثورة الفرنسية ومواثيق حقوق الإنسان .. انتصرت العنصرية وعاد اليمين، بمختلف أطيافه، إلى الحديث بلغةٍ لا علاقة لها بمكاسب التاريخ والسياسة في العالم. ومن يتابع النقاشات الجارية اليوم في فرنسا، يجد نفسه أمام فرنسا أخرى، مهووسة بالإسلام ولون البشرة وتتغنَّى بالفرنسي الكاثوليكي الأبيض!

ولنأخذ، كمثال ثانٍ على ما نحن بصدده، بعض إشكالات الانتقال الديمقراطي في المغرب، إذ نُعايِن أنّنا أمام قضايا ترتبط بالنظام السياسي، كما ترتبط بالأحزاب والمؤسسات الديمقراطية. وإذا كان النظام السياسي المغربي يحرص، منذ عقود، على مختلف الإجراءات المعزِّزة لمساره في التمرُّس بآليات العمل الديمقراطي، حيث تتعاقب الدورات الانتخابية، وينتج عن تعاقبها أغلبية تُكلَّف بتشكيل الحكومة، من دون أن يحصل أي تغيُّر في مردودية العمل السياسي، ومن دون أن يحصل أي تقدّم في تقليص درجات التفاوت الاجتماعي وفي وتيرة التنمية. ومن اليسار إلى اليمين إلى الإسلام السياسي إلى الأحزاب التي تقوم اليوم بتدبير السياسات العامة، إلا أن ما يستقر في ذهن الملاحظ غياب التحوُّل المطلوب في المسار السياسي للمجتمع، فلا شيء تغيَّر في المشهد السياسي المغربي منذ أزيد من عقدين، يتواصل العمل بالوسائل والآليات نفسها التي اشتغلت بها الأغلبيات السابقة، وكل ما جرى ترديده من شعارات في الزمن الانتخابي الأخير 2021 تَبخَّر!

نواجه ظواهر جديدة من قَبِيل عزوف الشباب ونفور المثقفين، وكثير من نخب المجتمع المدني من العمل السياسي

لا نتردَّد في القول إنّ الديمقراطية اليوم محاصرةٌ بمختلف الفاعلين في قلبها بصور مختلفة، فهل أصبح الانتقال الديمقراطي في المغرب مُحاصَرا بنظامه وأحزابه؟ إنه اليوم مُحاصر بشبكة حزبية متآكلة ومحاصرة بشبكة عنكبوتية تقول كلمتها بطرقها الخاصة في كل ما يجري من دون أن تساهم في إضاءة الطريق الديمقراطي ولا في التغيير المطلوب.

يحق لنا أن نتساءل أي مستقبل للديمقراطية في عالمنا؟ وعندما نفكّر في هذا السؤال في سياق ما جرى ويجري في المغرب، نواجه ظواهر جديدة من قَبِيل عزوف الشباب ونفور المثقفين، وكثير من نخب المجتمع المدني من العمل السياسي. ومقابل ذلك، نلاحظ نوعاً من صناعة أحداث في الإعلام وفي فضاءات التواصل الرقمية بأحجام مُكَبَّرَة، مع عناية ببعض أبعادها الوجدانية وتجنُّب الخوض في الأبعاد الكاشفة عن أسئلة وقضايا كثيرة مرتبطة بها، حيث تعمل فضاءات التواصل الاجتماعي على تضخيم الأحداث وإبرازها، بل وصناعتها. يحصل ذلك بمحاذاة الضمور واللامبالاة الحاصلين في كثير من مؤسسات العمل السياسي القائمة في المجتمع، وقد يكون هذا الأمر وراء الانكماش والتراجع الحاصلين في أغلب الأحزاب السياسية المغربية، الأمر الذي يدفعها إلى إشراك نخب المال والأعمال والدين، بديلاً للشباب والنخب الجديدة الصاعدة، وهي نخبٌ لم تعد تثق في العمل السياسي القائم ومؤسساته، ولا يعرف أحدٌ ماذا تريد بالذات؟ فقد بلغت سيولة المجال السياسي حدودها القصوى.

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".