مستقبل التعددية السياسية في تونس
منذ بداية الإجراءات المتسارعة في تونس إثر قرارات 25 يوليو/ تموز 2021، تزايد الشعور أن البلاد تشهد تراجعا فعليا في مجال الحرّيات واحترام التعدّدية السياسية والحق في التعبير. وبعد إلغاء دستور 2014 وإقرار دستور جديد وإصدار عدة مراسيم تتعلّق بالرقابة على المواقع الإلكترونية، وخصوصا المرسوم 54 لسنة 2022 الذي اعتبرته منظمات المجتمع المدني مؤشّرا إلى ضيق السلطة من اتّساع هامش الحريات، ووصفته نقابة الصحافيين بأنه "فصل جديد من فصول التضييق على حرية التعبير التي تعتبر أبرز مكاسب الثورة".
كانت معركة الحرّيات وإقرار واقع التعدّدية السياسية إحدى أبرز شعارات النضال الحزبي والسياسي في تونس منذ الاستقلال، وظلت الأنظمة المتعاقبة زمن الرئيسين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي تمارس حالة من التضييق الممنهج على كل رأي مخالف، سواء تعلق بنشاط الأحزاب أو منظمات المجتمع المدني، حيث كانت القوانين التي تنظّم النشاط الحزبي والمدني من خارج السلطة تحرص على وضع ضوابط لا يمكن تجاوزها بالنسبة لكل ناشط ٍ سياسيٍّ في البلاد. ورغم أن دستور 1959 في فصله الثامن يؤكّد أن "حرية الرأي والتعبير والصحافة والنشر والاجتماع والتنظّم حريات مضمونة"، إلا أنه يتدارك بالقول "تمارس وفق الشروط القانونية". ولأن النظام السياسي السلطوي حينها هو الذي يحدّد القوانين، فقد أصبح من شبه المستحيل ممارسة الحقوق المنصوص عليها دستوريا، بل وتحوّل النشاط من دون إذن من السلطة إلى جريمة تؤدي بأصحابها إلى السجن. وهكذا ظهرت جريمة من نوع "الانتماء إلى جمعية غير مرخّص بها"، وهي تكفي لزجّ المعارض السياسي أو الناشط المدني بالسجون.
حصل، بعد ثورة 2011، انفتاح سياسي واسع، وتم السماح لكل الأحزاب والمنظمات والجمعيات بحقّ النشاط، وهو ما مثّل، من ناحيةٍ، تحوّلا فعليا في مجال الحرّيات والاعتراف بالتنوع والاختلاف، ومن ناحية أخرى، شكّل حالة من الإسهال الحزبي غير المبرّر أحيانا، خاصة في ظلّ وجود أكثر من 250 حزبا سياسيا، أغلبها مجرّد واجهاتٍ لا أهمية لها ولا تأثير. والأكيد أن أي مقارنةٍ بين التضييق على الأحزاب والاعتراف بالجميع لا يمكن إلا أن تميل الكفّة لصالح بسط الحريات وتوسيع مجال الحقّ في التعبير.
بدأت بعد إجراءات 25 يوليو/ تموز 2021 ملامح عودة النظام السلطوي القديم، وإنْ جاءت خطواته الأولى على استحياء، فقد كانت الانتخابات القائمة على الأفراد ومحاولة استبعاد الأحزاب من مجال التأثير في الشأن العام، وهي التي وُجدت لهذا الغرض، ثم التضييق على مساحات التعبير وإغلاق المجال العمومي، وعودة الرقابة الذاتية وانحسار مجال الحريات الإعلامية شكّلت إنذارا حقيقيا لطبيعة المرحلة الحالية، والتي تتشكّل تدريجيا في ظل حالة من العجز الظاهر لدى الأحزاب والمنظمات المدنية.
الفرصة قائمة لتدارك الوضع السياسي في تونس، والتوصل إلى صيغ للتعايش بين الأطراف المختلفة
يمكن لمراقب طبيعة عمل النظام السياسي الحالي في تونس أن يلاحظ بذور النظام السلطوي التي تنمو بشكل متسارع، سواء من خلال ظهور سلطةٍ هرميةٍ تبدأ من صغار الموظفين في الجهاز الحكومي، وصولا إلى قمّة السلطة التي تتركّز في يد شخص واحد. وهي، في الوقت نفسه، سلطة مطلقة، حيث تجتمع كل خيوطها في مركز واحد، بعد إضعاف السلطة التشريعية وإخضاع سلطة القضاة، فالنظام السلطوي الجديد يقوم على سلطةٍ تحكّميةٍ تعتمد على إطلاق يد السلطات الأمنية في إدارة الأمور وإقامة نظام دستوري وقانوني يسمح للسلطة التنفيذية بالتمتّع بسلطات واسعة خارج الرقابتين التشريعية والقضائية.
توظيف نقمة جزء من الشارع على الأحزاب التي تولت الحكم في الفترة الديمقراطية واستخدامها مبرّرا للإقصاء السياسي مؤشر سيئ إلى طبيعة إدارة هذه المرحلة، خصوصا في ظل الأزمة الاقتصادية الحادّة التي تعاني منها البلاد. وقد أصبح السؤال عن مستقبل التعدّدية السياسية ملحّا في المرحلة الحالية، وهو تعبير فعلي عن الانتكاس الحاصل في الحرّيات، وهو ما يفرض على النخبة السياسية والمنظمات المدنية أن تتجاوز منطق المناكفات وحالة الشماتة المتبادلة واعتبار إقصاء أي خصم سياسي انتصارا، بينما هو مجرّد وهم في أذهان أصحابه، لأن حالة المنع التي قد تبدأ بأطرافٍ محدّدة ستنتهي لتشمل الجميع، وهو ما كشفت عنه تجارب الحكم السابقة في فترة ما بعد الاستقلال وإلى حدود ثورة 2011.
الفرصة قائمة لتدارك الوضع السياسي في تونس، والتوصل إلى صيغ للتعايش بين الأطراف المختلفة، والانتقال إلى مناقشة الحلول الممكنة للمشكلات الاقتصادية المتصاعدة التي تعانيها البلاد، وهي المسألة الأكثر أهمية في المرحلة الراهنة.