مروءة الانقلاب وشجاعة السيسي
لم يكتف أعلام ذلك الجيل بحمل السيسي وانقلابه فوق ظهورهم، بل صاروا حرّاساً للانقلاب الذي اعتبرته إسرائيل هدية السماء، ولم يتوقفوا يوماً عن تغذية فاشية النظام وتبريرها، والمطالبة بمزيد منها، وبما أن السيسي كشف عن وجهه الصريح، المنحاز لإسرائيل، فإن صمت هؤلاء يفضح أنهم باتوا حرّاس كامب ديفيد والساهرين عليها.
لم يبرع في إسباغ صفات العظمة والبسالة على السيسي أكثر من شخصين، الأول محمد المخزنجي، الأديب والطبيب النفسي، الذي كان يباهي بقصة اعتقاله، بتهمة النضال ضد كامب ديفيد السادات.. والثاني رئيس حكومة الاحتلال الصهيوني، بنيامين نتنياهو.
تغزّل نتنياهو في"الرئيس الشجاع" عبد الفتاح السيسي، بعد لقائهما في نيويورك، والمخزنجي كتب هكتارات من كلمات الغزل في مروءة السيسي وبسالته ومجموعة انقلابه.
بعد مجزرة الحرس الجمهوري التي نفذها السيسي ضد معارضي الانقلاب، حاول المخزنجي تبرئة النظام، بالتلميح إلى أن "الإخوان" هم الذين فعلوها، كما كان يفعل الصهاينة بإغراق سفن المهاجرين اليهود لابتزاز العالم، ثم انبرى يسبغ صفات النبل على جريمة السيسي، بوصفها مسألة "جلية المروءة، وأن الأمر ليس انقلابا كما تقول الكتب المدرسية ضحلة الآفاق، وكما يود أن يثبت من بقلبه هوى وبرأسه غرض".
ثم دخل مباشرةً إلى التحريض على رافضي المجزرة، بالقول "ولأن ذلك كذلك، فلابد أن لحظات الكشف والمكاشفة آتية، ثمّة من تنتظرهم السجون لأفعال أقلها التحريض على الفتنة والفرقة والقتل، وثمّة من استثمروا الكثير، وأبدوا حماسا منقطع النظير لطيف، لا يمكن عقليا أن يتحمّسوا له بالمجان، إلا لأنهم يرون فى استشرائه خدمة لمخططات تقسيم المُقسَّم وتجزيء المُجزَّأ التى يرتجونها فى إطار ما يسمى "الموجة الرابعة من الحرب غير المتماثلة"، الحرب بالوكالة لصناعة الدول الفاشلة التى ليست حية ولا ميتة، ومن ثم موجودة بلا وجود، تأكل نفسها بنفسها، فترتاح إسرائيل".
الآن يهمنا، بل هو حقنا، وواجب عليه، أن نسمع صوت محمد المخزنجي، وهو يرى"جنرال المروءة والبسالة" يتفانى في خدمة أمن إسرائيل، ويحارب من أجل سلامة مواطنيها، ويعرض نفسه في أسواق السياسة والنخاسة، نسخة رخيصة من أنور السادات وحسني مبارك.
في اللحظة الراهنة، يأخذ السيسي مصر إلى أعماق أبعد وأخطر في مستنقع التبعية الصريحة للكيان الصهيوني، ما وصل إليه السادات في لحظة كامب ديفيد، فالأول يعلن صراحة عداءه لتاريخ وجغرافيا مصر، فيما كان الثاني مسكونا بأوهام "بطل الحرب والسلام".
في حالة السادات، كانت النخبة السياسية المصرية عند مستوى المسؤولية الوطنية والأخلاقية والثقافية، فاشتعلت بالنضال ضد ذلك الانحراف الجنوني عن مقتضيات الهوية والحضارة والدور، بينما في لحظة السيسي تبدو النخبة ذاتها، باستثناءات محدودة، وكأنها أشعلت النار في تاريخها وخلعت انحيازاتها، وتنكرت لذاتها.
هي نخبةٌ تبدو وكأن جنرال الحلم الإسرائيلي نجح في كسر عينها، فلم يعد في وسع غلاة الناصريين والقوميين أن يجهروا بالرفض، أو يحشدوا للنضال الجماهيري ضد تسليم الماضي والمستقبل، بالمجان، للإرادة الصهيونية.
ليس ثمّة أحد مستعد لدفع ثمن موقف محترم، يستجيب لاعتبارات التاريخ النضالي، ويحترم حق جماهير تسحق تحت أقدام نظام بات يتحرّك وعينه على كل ما يرضي إسرائيل، هل تتخيل مثلاً أن وزير خارجية السيسي السابق، الذي لا يزال يناضل من وضع التعاقد في خدمة مشروعه، هو نجل وزير الخارجية المصري الراحل إسماعيل فهمي الذي قدم استقالته بعد زيارة السادات إسرائيل لأنها "حطمت دور مصر تجاه الفلسطينيين، وعزلت مصر عربياً، كما عزلت السادات داخل بلاده"؟.
أما عن الناصريبن، فقد قام عمرو موسى بالمهمة، مستبقاً لحظة الذروة الدرامية بين السيسي ونتنياهو، بأن أحرق صورة عبد الناصر في وعي جماهيره، زعيماً ضد المشروع الصهيوني، ولم يبق منه سوى المستبد الذي يستحضر الطعام بالطائرة، طازجاً، من أوروبا، فليخرس الناصريون، ويغرقوا في متاهة معركة طعام الزعيم!
أما الإسلاميون، فقطاع منهم مستغرق في معركة "أم أحمد" وقطاع آخر غارق في أوهام الكيانات والجبهات، التي تكفر بعضها بعضا، وتطحن بعضها بعضاً، فيحتسي السيسي قهوته مع نتنياهو، سعيداً، بكل هذا الدعم.
ملحوظة: حتى عصر أمس الخميس، فتشت عن اسم حزب، أو جبهة، داخل مصر أو خارجها، قرّر أن"يتهور" ويصدر بياناً إلى الجماهير، يدعوها للتصدي لعار اللحظة الراهنة. أو حتى تسجيلاً لموقف، أو إبراءً للذمة، فلم أجد، وأتمنى أن أكون مخطئاً وأعتذر.