مرسوم لتقييد الإعلام والحرّيات في تونس
في غفلة من الطبقة السياسية في تونس، المصاب بعضها بالحنق الشديد والعجز التام عن الفعل والتأثير (المعارضة)، وأخرى مصابة بالبهتة والتيه (الموالون والطبيعيون والمفسّرون والمعبّرون المساندون للاستفتاء والدستور)، من جرّاء ما ورد في المرسوم المنظم للانتخابات التشريعية الصادر يوم 15 سبتمبر/ أيلول الحالي، من آثار وخيمة على مكتسبات الحداثة السياسية في تونس، التي ناضلت من أجلها أجيال من السياسيين المتحزّبين وغير المتحزّبين ونشطاء المجتمع المدني وطيف واسع من المشتغلين بحقول الفكر والسياسة والثقافة والفنون والديمقراطية وحقوق البشر في التعدّد والاختلاف والتنوع وحرية التعبير، وما يمثّله هذا المرسوم من ردّة بيّنة على مبدأ التداول السلمي للسلطة وحق الأحزاب السياسية، بوصفها ركيزة الديمقراطية التمثيلية في ممارسة الحكم (البرلمانات والمجالس المحلية)، لصالح فكرة طوباوية قديمة مستوحاة من الفكر المجالسي، جوهرها تكريس قيمة الفرد وإعلاء شأنه وتمجيد الفردية السياسية بديلا عن التنظيم والمجموعة والمؤسّسة (الحزب والكتلة والجبهة السياسية والائتلاف والجمعية والمنظمة) واستبدال الأفكار والمعارف والأيديولوجيا بروابط القرابة والدم والقبيلة والعشيرة والمال، وجعلها زينة العملية السياسية وأداة ولوج المؤسسة التشريعية التي ستكون أقرب إلى تجمع ذكوري تغيب عنه النساء، لعدم توفر الضمانات القانونية في التناصف وضعف فرص نجاحهن في الانتخابات المزمع تنظيمها قبل نهاية السنة الجارية.
في ظل تلك الغفلة، صدر المرسوم الرئاسي عدد 54 لسنة 2022 المتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال، مكملا مرسوم الانتخابات في القضاء التدريجي على حرية الإعلام والاتصال، فالإعلام هو الوجه الآخر للعملية الديمقراطية ولحرية النشاط السياسي والحزبي، وكذلك التقليص من الحريات الأكاديمية، وخصوصا في مجال الدراسات الإنسانية والاجتماعية، التي تحققت بفضل النضالات النقابية الجامعية.
لا شيء يمنع من استعمال القانون القمعي والاستبدادي، ومن توظيفه في الابتزاز والقهر والاعتداء على الآخرين
لا شيء يتحرّك خارج الرقابة بعد صدور هذا القانون، فكلّ أنشطة الناس الإلكترونية والافتراضية وما يستخدمونه من حسابات على مواقع السوشيال ميديا، ومن تطبيقات اتصالية، مثل فيسبوك وتويتر وإنستغرام وماسنجر وسينيال وتلغرام وغير ذلك من أسماء التطبيقات التي تملأ شاشات الهواتف الذكية و"التابلات" بأنواعها، وجميع الأجهزة الإلكترونية والمحامل الافتراضية، هي في الوقت نفسه محامل لأشياء مشبوهة في نظر الحاكم، وجب إخضاعها للرقابة والتثبت منها، فقد تُضمّن ما يسيء للدولة والنظام والرئيس.
يمكن للقانون أن يكون أقلّ وطأة لو وُضع معجمٌ مصاحب يعرّف ما ورد فيه من مصطلحات. أما صدوره بالصيغة العامة الغامضة القابلة للتأويل على هوى من يعاين ويستقصي ويتثبت ومن يحكم ويتحكّم في رقاب الناس، فلا شيء يمنع من استعماله القمعي والاستبدادي، ومن توظيفه في الابتزاز والقهر والاعتداء على الآخرين.
في سنة 2020، تقدّم النائب مبروك كرشيد، بمعية 47 من زملائه من كُتل مختلفة في البرلمان التونسي، بمشروع قانون شبيه يحمل عنوان "أخلقة الحياة السياسية والاجتماعية"، من أجل الحدّ من هتك الأعراض والثلب وشتم الناس والاعتداء عليهم والتصدي لبثّ الإشاعة على صفحات ومواقع الشبكة الافتراضية، وبالرغم من أن ذلك القانون كان مخففا ولا يمس من الحريات العامة والفردية وحرية الإعلام والاتصال ونشاط المجتمعين المدني والحزبي، فقد تعرّض إلى حملة فيسبوكية شعواء. وقد أصدر الاتحاد العام التونسي للشغل والهيئة الوطنية للمحامين آنذاك بيانات تنديدٍ بمشروع ذلك القانون الذي تم إسقاطه في مكتب مجلس نواب الشعب، قبل أن يصل إلى أيدي اللجان المختصة. وكذلك الأمر بالنسبة لـ37 منظمة وطنية وجمعية مدنية، منها النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين والاتحاد العام لطلبة تونس والاتحاد الوطني للمرأة التونسية والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، معتبرةً في بيانها الصادر يوم 30 مارس/ آذار 2020 أن مشروع القانون يتضمن أحكاما متعارضة بصورة صارخة مع الفصول 31 و32 و49 من الدستور التونسي لسنة 2014، ومع المادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي صادقت عليه تونس، خصوصا أنه يتضمّن عقوباتٍ غير متناسبة مع الأفعال المجرّمة، وأن نشر الأخبار الزائفة مجرّم بمقتضى الفصل 54 من المرسوم عدد 115 لسنة 2011 المتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر.
مرسوم وأد الحريات السياسية ونظيراتها الإعلامية، فهذه الحريات صنوان، بها يعيش المجتمع المدني- السياسي وتوأمه المجتمع الإعلامي – الاتصالي
وبالإضافة إلى ذلك كله، الجرائم الإرهابية وجرائم تبييض الأموال خصّها المشرّع التونسي بالقانون عدد 9 لسنة 2019 المنقح للقانون عدد 26 لسنة 2015 المتعلق بمكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال، الذي يمكّن الأجهزة الأمنية والقضاء التونسي من كل الوسائل لمنع التطرّف والعنف التكفيري والتصدّي للإرهاب والإرهابيين، أفرادا كانوا أو تنظيمات أو جهات استعلامية، ما يغني عن محتويات وفصول كثيرة وردت في المرسوم الجديد.
اليوم، تسكت أغلب القوى المدنية، ومعها الأحزاب السياسية، على هذا المرسوم الخطير، المؤسّس من جديد للدولة التسلطية التي أسقطها التونسيون ونخبهم السياسية الديمقراطية بمشاربهم المختلفة بعد نصف قرن من النضال والتضحيات، فهذا المرسوم يرمي، بوضوح ومن دون مواربة أو تردّد، إلى كتم أصوات الناس، ومنعهم من التعبير عن آرائهم بكلّ حرية، وتدجين الأجسام الوسيطة من جمعيات وأحزاب ومنظمات ووسائل إعلام لإدخالها بيت طاعة من يحكم، أو إنهاء وظيفتها، إذ لا يبدو أن لها موقعا في الجمهورية الجديدة التي حدّد ملامحها دستور 25 جويلية (يوليو) 2022. إنه مرسوم وأد الحريات السياسية ونظيراتها الإعلامية، فهذه الحريات صنوان، بها يعيش المجتمع المدني- السياسي وتوأمه المجتمع الإعلامي – الاتصالي، وبدونها يأفل نجم كليهما ويضمر، فتذهب ريحه وتنتهي وظيفته ويموت ويفنى.