مرحلة مختلفة بين الأردن والسعودية
تثير المفاوضات السعودية - الإسرائيلية والأميركية تساؤلات جدّية وعميقة في عمّان، في أوساط النخبة السياسية الأردنية، وقد بدأت أوساط أردنية وفلسطينية تتحدّث عمّا يسمى أوسلو 2، في ظل الوضع الكارثي للسلطة الفلسطينية وغياب الدعم الدولي والإقليمي، والتراجع الاستراتيجي في مركزية القضية الفلسطينية على الأجندة السياسية العربية.
وتستدعي النقاشات، بل الهواجس، الأردنية، قضايا عديدة على أكثر من صعيد: يتعلّق المستوى الأول بمستقبل القضية الفلسطينية بعد التطبيع السعودي، الذي يمثل الجائزة الكبرى بالنسبة إلى حكام إسرائيل، إذ من المتوقّع أن تتلوها مباشرهً في التوقيع دول إسلامية كبيرة ومهمة، وبالتالي يمثّل ذلك مرحلة متقدّمة جداً في القضاء على حلم إقامة دولة فلسطينية، ووضع الفلسطينيين في مأزق أكبر. ويتمثل المستوى الثاني بالهواجس الأردنية التقليدية مع نهاية حلم الدولة الفلسطينية وصعود اليمين الإسرائيلي الصهيوني واستقراره، ما أعاد الحديث عن "الوطن البديل"، أو "النظام البديل" في أوساط يمينية إسرائيلية وأميركية. ووصلت هواجس بسياسيين أردنيين إلى عدم استبعاد الترانسفير لفلسطينيين على المدى المتوسط أو البعيد إلى الأردن. ويتعلق المستوى الثالث بالدور الإقليمي الأردني الذي قام دوماً على حضور فاعل للقضية الفلسطينية في السياسات الدولية من جهة، وعلاقة خاصة مع الولايات المتحدة من جهةٍ أخرى.
لكن سؤال العلاقات الأردنية السعودية لم يبدأ من موضوع التطبيع الحالي، وما قد يؤدّي إليه من تحوّلات إقليمية كبيرة، بل سبق ذلك بكثير، بخاصة منذ بدايات الربيع العربي، ومع توقّف المساعدات السعودية المالية المباشرة للأردن، والبدء بفكرة "المنحة الخليجية"، ثم تعزّزت التحوّلات مع حكم الملك سلمان والعهد الجديد ومهندسه وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، إذ من الواضح أنّ إدارة الحكم السعودي العلاقات الخارجية ورؤيته لدور السعودية العالمي والإقليمي، وقضايا المنطقة قد تغيرت بالكلية عن المرحلة السابقة، وهو الأمر الذي أخذ منحىً أكبر أيضاً خلال مرحلة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، وإعلانه نقل السفارة الأميركية إلى القدس، ولاحقاً صفقة القرن، والتعامل مع ملفّات اليمن وغيرها، وتبدّت الرؤية السعودية إلى الأولويات ومصادر التهديد متباينة عن المنظور الأردني، وبرزت فجوة في القراءات ملموسة بين الطرفين، ثم جاءت ما سمّيت قضية "الفتنة" (موضوع الأمير حمزة)، وكان أحد المحكومين فيها (رئيس الديوان الملكي الأردني السابق، باسم عوض الله) مقرّباً من دوائر القرار في السعودية.
هذه التطورات والتحولات واقعية ومنطقية في ظلّ انهيار النظام الإقليمي السابق، وإعادة تشكيل التحالفات الإقليمية في المنطقة وتدويرها، والتوجّهات السعودية الجديدة داخلياً وخارجياً، لكنها تتطلب نقاشاً ذا طابع مؤسّسي واستراتيجي بين الدولتين، لترسيم المصالح الأمنية والاستراتيجية والاقتصادية المشتركة وتعريفها، وهي كبيرة وعديدة، وتحجيم القضايا التي تدخل في منطقة تباين الرؤية بين الطرفين.
لم تعد الطريقة التقليدية في إدارة الأمور التي تقوم عادةً على تغطيةٍ على الخلافات من دون تظهيرها ومواجهتها، قادرة اليوم على التعامل مع هذا الواقع الجديد، فمن الضروري اليوم بناء أجندة مشتركة لكيفيّة تعزيز المصالح المشتركة ومفاهيم الأمن الإقليمي المتبادلة، ما يتطلب أيضاً البحث عن أسباب عدم فعالية الصندوق السعودي - الأردني للاستثمار الذي تمّ تأسيسه وقوننته بين البلدين قبل ستة أعوام، فهو مجال واسع لتبادل المصالح وتعزيز الدور الاستثماري السعودي في الأردن، وهنالك مساحة واسعة لبناء تفاهمات مهمة في ما يتعلق بتعزيز دور الطاقات الأردنية الإنسانية في المشروعات الاقتصادية السعودية الكبيرة الجديدة، ما يستدعي تعزيز مساهمة رجال الأعمال والصناعيين والتجّار الأردنيين في النقاشات التي تجري بين البلدين.
يفرض الجيو بوليتيك نفسه على المصالح المشتركة وعلى التعاون والتكامل بين الدولتين. ومن الطبيعي أن يكون هنالك منظور لكل دولة لمصادر التهديد الأمني وللأولويات الاستراتيجية الإقليمية، وهي المعادلة المهمّة المفترض أن تضع كل ملفٍ من هذه الملفات في موقعه المناسب من خريطة العلاقات بين الدولتين، والاعتراف المتبادل بأنّ هنالك ضرورة اليوم لإعادة تعريف العلاقات المتبادلة في ضوء المتغيّرات الدولية والإقليمية.