مدارس نحو الأميّة

04 سبتمبر 2022

(عبد الرحمن السليمان)

+ الخط -

سيتسلم طلبة المدارس العرب كتبهم الجديدة بفرح غامر، وهم يردّدون أغنية طفولتهم الأولى: "هالصيصان شو حلوين..."، غير مدركين أنّ الصوص مشروع دجاجة مستقبليّة لن تتجاوز حدود الأقفاص، إلّا للذبح والمعط، ولن تمنح أي رخصة للتأجيل إلّا إذا كانت من طراز الدجاج "البيّاض" فقط.

وربما لهذا السبب، يغرم الأطفال العرب وحكّامهم، معاً، بقصة الدجاجة التي أصابتها طفرة ما، فراحت تبيض يوميّاً بيضة من الذهب. ولكلّ طرفٍ مسوّغاته لهذا الحبّ، فالأطفال يودّون أن يحظوا بفرصة أكبر لإطالة أمد حياتهم في بلادٍ تقصف الأعمار بسرعة عجيبة، أما الحكّام الباحثون عن "الحلْب" و"النهب" السريع فيفكّرون في ذبح الدجاجة، أملًا بالحصول على كلّ ما تختزنه أحشاؤها من بيوض ذهبية. ومن الواضح أنّ الطرفين لم يقرآ قصة الدجاجة الذهبية إلى خاتمتها ليعرفوا النتائج.

سيجلس الطلبة على مقاعدهم، وحالما يفتحون الكتاب، سيكون الدرس الأول الذي يتلقونه صورة الزعيم التي تزيّن الصفحة الأولى، وبعض أقواله وحكمه المأثورة التي ينبغي أن تحفر في الذاكرة، بعد أن حفرت في كلّ الميادين الرئيسية في الدولة؛ لأنها بمثابة "معلّقات" سيخلّدها التاريخ، وما دون ذلك فحشوٌ ولغو، لن يضيف إلى خزائن معارفهم شيئاً. ولو اكتفوا بهذا الحشو من دون الدرس الأول الخاص بالزعيم، فذلك يعني أنهم لن يخرُجوا من دائرة "الأميّة" البتة.

وللزعيم مقرّراته الدراسية المنفصلة التي لا يمكن للطالب أن يجتاز صفّه الدراسي من دون حفظ متونها غيباً؛ لأنّها قاعدة المعرفة وسنامها، وهي مقدّمة ضرورية لدخول معترك الحياة العملية، فمن لا يحفظ هذا الدرس جيداً، لن يحالفه الحظّ بالحصول على وظيفة، إلّا إذا أعيد تأهيله من جديد، من خلال "مدارس محو أميّة الكبار" ذات الغرف المعتمة، والقضبان التي لا تجتازها أشعة الشمس، والتي يسمح فيها بالضرب والجلد، والتعليق و"الشّبْح"، مع ضرورة التعرّض لتجربة "الفرّوجة" التي يحشر من خلالها السجين في عجلة كاوتشوك، ويتلقى الضرب عن يمينه وشماله والعجلة تتدحرج، ربما لتذكير المعتقل بأنّه ليس أزيد من "دجاجة" لم تعد صالحة لغير السلخ والمعط.

أما إن شاء الطالب إتمام دراساته العليا فثمّة مجالٌ مغر، أمام من محا أميّته في المدرسة، لأن يعزّز هذا المحو بكتابة رسائل ماجستير ودكتوراه عن الزعيم و"فكره"، و"نظرياته" و"منجزاته"، ففي إحدى الدول الثورية العربية، تزخر رفوف الجامعات بمئاتٍ من هذه الرسائل التي لم تفِ الزعيم جزءاً يسيراً من "عبقريته" الفذّة.

يعود الطلبة العرب إلى مدارسهم لمحو أميتهم عندما يتعلّمون أنّ الوطن كلّه هو من إنجازات الزعيم وابتكاراته، وربما من "خلقه" أيضاً، ولا حول ولا قوة إلّا به، وأنّ التشبّث به، والحرص على حياته، وتأبيد عرشه، ينبغي أن تكون الأولوية الوحيدة في حياتهم. وأما حريات القول والتعبير والتنظيم، فهي أقصر الطرق إلى الجهل، والتخلّف، وتكريس الأميّة، ولا مكان لها في وطن طهّره الزعيم وعقّمه من آفات الأحزاب والحركات النقابية والعمالية، وفي أحسن الأحوال قصّ ريشها؛ وجعلها حشواً للمطارف التي ينام عليها، لأنّها نمط من "الدجاج" الذي لا يفكّر خارج الحظيرة.

ولا صدمة حضارية يمكن أن تقع لهؤلاء الطلبة، كما وقعت لرفاعة الطهطاوي عندما زار باريس، فقد هيأتهم المنظومة الحاكمة العربية لمثل هذه الصدمات جيداً، عندما وظّفت آلاتها الإعلامية والعشائرية والدينية؛ لإثبات أنّ الخصوصية العربية لا تقبل نظريات الحكم الغربية، بما فيها الديمقراطية، وعندما جنّدت كلّ أسلحتها لتقويض ثورات الربيع في بلدانها، ثم راحت تطالب شعوبها بالاعتذار عن هذه الخطيئة التي اقترفتها بحقّ أنظمةٍ لا تستحقّها هذه الشعوب.

بمثل هذا الاستعداد، يعود الطلبة العرب "نحو الأمية" حيث لا محو إلا للعقل العربي نفسه، وربما للجسد أيضاً إذا خرج الدجاج من حظائره لغير الذبح والبيض، غير أنّ السؤال: كم محوًا يحتاج الطلبة العرب وآباؤهم، إذا اكتشفوا يوماً مبلغ أمّيّتهم الحقيقية؟

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.